"أيام سمير حُمص...... طريق غير مكتمل للبطولة"
عندما ننظر لبعض القصص والسير الشعبية نجد حبكتها وقوامها متركزا على فكرة البطل الذي تراه من طينة الناس العاديين دون أي اختلاف، وبتتابع الحبكة يمر بما يظهر ميزته المخفية أو المعروفة له لكن لا تجد للظهور سبيلا، ويتهيأ بذلك عبر مسارات أو عقبات تزكي نفسه وتزيد من معرفته وهمته، لما يجعله أمام الناس نجدة فجائية من رب رحيم من ظلمات أحاطت بهم "كعلي الزيبق أو الظاهر بيبرس في سيرهم أو عاشور الناجي-الجد والحفيد- في ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ" أو إنصاف بسيط من الدنيا "كنوح الرحيمي من رواية بار ليالينا للكاتب أحمد الفخراني"
❞ لم تُمهله الملائكة، قبضت بشدة على روحه، وتركت جسده خَرِبًا يشكو قلة المعرفة… وفي البرزخ أدرك أن أمامه مُتَّسَعًا. ❝
إلا أن حينما نتعمق في فهم الطبقات الاجتماعية البسيطة وانتقلنا من دراسة التماس العامة للبطل والتفافهم حوله كقصة "شوز السيد الزعيم" أو تكيفهم وانكفائهم على أنفسهم كقصة "الدراجة ثلاثية العجلات " سنرى -وسط الدائرة المليئة ببشر كالشجر قلمتهم ظروف حياتهم فصاروا نماذج متشابهة- أناسا مختلفة كعليان في قصته، كادت تضع قدميها في طريق البطولة والصدارة، وذاقت حلاوة الارتقاء عن مفاهيم العامة، لكن مثلما كان سؤال صلاح جاهين المستعجب "هو الكلام يتقاس بالمسطرة؟" كان عجب الدنيا من أن كل هؤلاء ينالوا البطولة ولو لمدة يسيرة مشفقة عليهم، فتركتهم في متاهتهم بين حسن حظهم وسوءه "كبيكاتشو في قصته" إلى حين "أو بين شطين على قنطرة إن جاز التعبير"
-- نظرة السامري وأراضي البوسطاجية
تتضح الصورة أكثر في قصص "عليان، وبيكاتشو، وركض دائري، وحكاية ناقصة، وإبراهيم العوفي"، لأن جميعم اتفق على رؤية شيء عصي على التفسير، كان كتأثير الخمر عليهم "ولذا أتى وصف الحمرة في ركض دائري على هذا الحال"، فأصابهم -كما أصاب السامري حين قال في في الآية الكريمة ",قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي" - تردد وصراع بين واقعهم وبين ما رأوه من ناحية وبين نفوسهم التي فسرت الحدث كمحاولة بائسة من ناحية أخرى
❞ تمثلتُ شعوره الذي طالما وصفه لي: بدأ الانفجار بداخلي أولا، شعر بأنه مصدر ما يحدث، وهو من جذب السماء لتتهاوى عليه وعلى من حوله. ❝
-وكما اتفق هؤلاء في الهم الذي تعايشوا معه-باعتبار حالتهم الموصوفة-اتفقوا أيضا في التخبط والتردد الذي يضعهم متعلقين في منتصف كل شيء- والتي تخلبهم لكون الأبطال تعاني بشيء شبيه بذلك- "كعليان ومراسيله التي ضلت طريقها للبوسطجية، ومن قبلها تعلقه بين أخيه علي الذي ودع الحياة وأخيه علي الآخر الذي تمسك بالحياة قليلا" وأيضا شعورهم بالعزلة والانزواء "كرحلة بطل قصة قطار الزيف إلى السلوم"، وقبل ذلك كله الإرادة المستقلة كقصة "بيكاتشو" وقليل منها في قصة عليان التي جعلتها أصلا يخوضون طريق البطولة ويحاولون إيجاد الصدارة بأنفسهم دون انتظار أحد "كبطل قصة الدراجة ثلاثية العجلات وبطل قصة ذاكرة حية"
-ولأنهم عاديون بشكل يصعب شرحه "كما وصف بطل قصة ركض دائري" فهم لم يحتملوا وضعهم أمام أول اختبار، فتتوه ذواتهم عنهم، ولا تدرك نفسها إلا مجرد رسول لما لا يدركه "وهو ما ميز عليان عن غيره بنظر الراوي"، ومن ثم ينتظر تمام أمر الرسالة "كقصة انتظار"
--آن للغريب أن يؤوب "جدلية العودة للديار"
-ومن خلال حبكات القصص نجد أن النفوس التائهة تلك -وإن اتفقت على نقطة البداية ورحلتها القصيرة- تشتت في مصائرها بين العودة والغياب المطلق، فنرى من جانب عليان في قصته يفرغ دما -والتي هي ربما الخمر التي أصابت بطل قصة ركض دائري- ومن ثم يعود لرشده، ومن جانب آخر نرى الأب في قصة حكاية ناقصة قد تهدم واقعه وتغير وفق ما رآه، فصار القمر قريبا إليه بما يكفي، ومثله إبراهيم العوفي في قصته الذي لم يستوعب قصد غواية المرأة
- ومن هذا التيه لا يكتفي أبطال القصص بالتردد بين العودة والتلاشي، بل يترددون بين طريقة العودة نفسها وكذلك الغياب، فيصنعون مزيجا به بطشة من واقعهم البائس، لذلك نرى تشابها بين بيكاتشو في قصته والأب في قصة دانة، فقد تفتت ذواتهم وتركت لهم شيء بسيط يعتمدون عليه كحائط باهت أو ذكرى مؤلمة كانوا فيها مركزا لما يدور حولهم، قد يصنع منها -من ذاته الباقية وحدث تفتتها - حياة يعود إليها كل مرة كقصة دانة، أو ينطلق مستغنيا عنها كبيكاتشو
- ولكن هناك الأقل حظا من بينهما، وهم المتعلقين بين الحضور والغياب دون أن يملكوا العيش في أحدهما أو مزجهما، كعائلة قصة ركض دائري بين واقعهم وألاعيب العقل الباطن، أو الشهيد علي في قصة رفات بين جسده الضائع ورفاته من رسالة ورقم معدني، فمنهم من يلجأون لحيلة تفريغ "كتفريغ عليان" بقت.ل أحدهم وإنهاء سيرته فينتهي تعلقهم، ويكون خلاصهم على يده، لكن بعضهم كالسيدة سين "في قصة أعمال سين التي ذهبت هباء" يظل كالمصلوب بلا قائم، فلا ينفع فداءه "حين ماتت" ولا يعرف يخلص نفسه
--سلوى العاجز
"يا ظريف الطول وقفت أقولك
رايح على الغربة بلدك أحسنلك
خايف يا ظريف تروح وتتملك
وتعاشر الغير وتنساني أنا
يا ظريف الطول وين مغرب وين
قولي لمين كتبنا هادا اللحن
والمغترب كيف ما يعود ويحن
إلا ما يسمع منا مجاورنا"
يا ظريف الطول- تراث فلسطيني
- ربما يتجلى أمامنا سؤالا، هل مقدر على صاحب الرحلة في هذا الشتات أن يعيش معاناته وحيدا؟ تجيبنا معظم القصص بلا، فهؤلاء العاديون المنسيون وإن كانت رحلتهم زيفا فإنهم يحتاجون لمن يقاسمهم همهم، ومن يغيثهم من تيه أنفسهم، من استحكام مصير الدارة السوداء التي وصفها يوسف الخال في قصيدته
"أنا لا أعرفُ حالي:
العصافيرُ بنتْ أعشاشَها
حيثما حطّتْ بها ريح الشمالِ،
وأنا في هذه الدارة وحدي
جاثماً كالهمّ، كاللعنة، كالخوفِ
على صدرِ الجبانِ،
جاثماً كالموت في البرهة في كلِّ مكانِ"
فلا عجب أن ترى سلوى في قصة "فجر وردي" تساعد زوجها المقعد بابتسامة راضية، أو تجد الصورة التي وضعها الراوي في قصة رفات عن صورة أمه بجانب صورة أبيه كأنه ولدها الغائب، بل حتى السلحفاة التي يدللها العجوز في قصة قطار الزيف، فكلها موضوع به مسحة أمومة هادئة تصبر بطل القصة التائه "ولو حتى بلقاء عابر في قصة عرج خفيف وجون للإنتر"، لأنها تعرف عجزه وهمه، وإلا لما رأى بطل قصة قطار الزيف حائرا، وسط كل من حوله
--صورة جوزيف كامبيل "على مقياس سمير حُمص"
- في تصور الكاتب الأميركي جوزيف كامبيل في كتاب البطل بألف وجه توجد صورة لتجلي البطل بعد مروره بعقبات في طريقه "من تلبية نداء المغامرة والدخول في الطريق واللجوء للمساعدة فوق العادة لمقابلة الربة والتصالح مع الأب" فتتجلى صورة يتساوى فيها كل الأشياء بالارتقاء عن العاديين، وهي تشبه ما أصاب سمير حمص "بأن نبت له ثدييان رغم ذكورته"
-ولأنه عادي مثل رفاقه فهو لا يعرف معنى وجوده على هذه الصورة، فيقاوم ويداري ما به وينكره واصفا إياهما بورمين لا بد من إزالتهما، فنراه كما الأرانب العرجاء تحاول مقاومة عرجها، لكنها يتقبل حقيقة نفسه، إذ أنها من ناحية لا تنفع تلك الميزة في واقعه "لو رأينا أن الثديين رمزا لمعرفة كما أظن وكما أشار الراوي أنه لا ينال منه إلا سبة "سميرة بزو" " ومن ناحية أخرى يدرك استحالة الصراع لأنه لا يدركه فهو مجهول، فينزوي كما ينزوي رفاقه ويتعايش معها إلى أن ينتهي فتختفي مه
الخلاصة: مجموعة مدهشة جدا، مليئة بالرموز التي تستحق الوقوف عندها، ومنها -ما لم يسع المقام بذكره المعلم حودة الذي كان رمزا للحكمة أيضا على مقياس العاديين الذين ذاقوا البطولة