يبدأ الالتباس من عنوان "المتتالية القصصية" كما سمت سارة أبو غزال كتابها الأول. "احلمي يا سيدي". مؤنث ومذكر في جملة واحدة. "سيدي" الفلسطينية تعني جدّي. ولا تستقيم هنا إلا إذا انتبهنا للعادة العربية بالتحبب في المناداة، الأم تقول لابنها يا ماما، وهكذا الأب والجد والجدة. "سيدي" هنا هو محمد عبد الوهاب أبو سكر، يطلب من حفيدته سلوى زين العابدين أبو سكر أن تحلم، لا بمعنى أن تتأمل، بل بالمعنى الحرفي، أن تنام وتحلم.
المتتالية القصصية، التي كان يمكن أن تسمى "رواية" من دون أن تزيدها التسمية قدراً أو قيمة، لا تبدأ من الحفيدة وجدها، بل من الجيل الذي يفصلهما، من الأب، من ذاكرة الأب بالأحرى، حيث هو الآن تائه في ستوكهولم، ويتذكر. يتذكر قراره بالخروج من شاتيلا. سفره إلى حيث هاجر ابنه نضال، ترافقه زوجته اللبنانية زهرة. يتذكر لقاءه السيء بداوود سنو.. مكتبته وبيته في طريق الجديدة.. المزحة التي لم يقبلها سنو، الرفيق اليساري، بعد انقلاب الصورة، بعد اغتيال الحريري. يتذكر أمّه. ويحكي، مرة بصوته ومرة بضمير الغائب. ومن الصفحات الأولى تصنع سارة أبو غزال عالم قصصها، تفكك الزمن والذاكرة معاً، ومعهما تتفكك الأمكنة وتتركب من "عين عارة" القرية المتخيلة في فلسطين، حيث بقي الجد، إلى شاتيلا قبل المجزرة وبعدها، وقبل أوسلو وبعده، إلى طريق الجديدة قبل اغتيال رفيق الحريري وبعده، إلى السابع من أيار 2008 إلى الحروب التي شكلت في مجموعها ما اصطلح على نعته بالحرب الأهلية. هكذا تمضي الحكاية بين الأجيال، مستعينة بما تحفظه الذاكرة، تلك الأشياء التي لا ينساها الواحد، لبؤسها حيناً، ولجذريتها حيناً. تستعين بالذاكرة المفككة هذه لتلعب بنصها ببراعة واحتراف، باللغة الأقرب إلى المحكي، بما يتضمن من سخرية وتهكم وجدية ونزق وحنان وقلق. وبينما تنسج قصصها، تترك سارة حبكة ما ناقصة هنا، بصوت عبد الوهاب، لتكملها هناك، بصوت أمه نجمة، أو زوجته زهرة أو نضال أو سلوى. نتواطأ مع الشخصيات وبسرعة نحفظ أسماءهم. والسرد يكاد لا يلتقط أنفاسه. يبدو متقشفاً خالياً من كل التكلف في صنعة الكتابة. يجري بسرعة، تماماً كما يجري حديث مشوّق، بأحداث وانفعالات عادية، أو باتت عادية لأنها تأتي من الذاكرة. نص لا يروي سيرة الشعب الفلسطيني من النكبة إلى لبنان الحالي، بل يحكي قصة عائلة عادية أخرى، الفارق الوحيد فيها أنها فلسطينية عاشت وتعيش في لبنان، ومنه تهاجر إلى أوروبا. عائلة لها مخزونها المضاف من التعقيدات التي تحملها الهوية وسيرتها.
عرفت سارة سرّ الذاكرة، وأجادت نقلها. كتبت ما بقي فيها دائماً مع الأثر الذي لا يمحى، والذي بالتالي يجعل الذكرى لا تمحى. الذكرى التي تتعلق بالحدث نفسه، وبمكانه، وبتغير الناس، وبتغيّر الأجيال، واختلاف صراعاتها، كل بحسب زمنه. هذا البديهي في أي عائلة، لكن حين تكون العائلة فلسطينية، فهناك دائماً تلك الطبقة التي تُغلّف كل شيء، من البداية، من عام 1948 وما قبله، إلى العودة وحقها. فلسطين حاضرة أبعد من حيزها الجغرافي أو تاريخها. تبدو حاضرة كشخصية أخرى هائمة فوق طول النص وعرضه.. تحوم حولها الأحلام الكثيرة التي يعول عليها أفراد آل "أبو سكر"، لتفسير ما مر عليهم وما يمرون به، والآتي. فلسطين والأحلام حاضرة في بحث سلوى عن هويتها وجذورها. تحضر هكذا، بتجميع الذاكرة أولاً، ثم بالأحلام..
"احلمي يا سيدي"، الذي يقع في ستة فصول، ليس قصصاً قصيرة منفصلة. عملت سارة على أن تكون القصص منفصلة ومتصلة في آن، وحافظت على إيقاع ثابت في السرد، في الفصول الأربعة الأولى. تبدأ كل فصل من حيث تشاء، تمضي فيه متحايلة على الأصوات الراوية، وتختم الفصل كما يحب الكاتب أن يختم، بلحظة لامعة. لكن سارة لا تنهي الحكايات نفسها ولا تخبر أكثر مما ينبغي، كما أنها لا تفرط بالشرح، بل أنها لا تشرح أصلاً. ثمة الكثير من السينما في قصصها. تدور الكاميرا بهدوء على الوجوه. تشكل هذا العالم الداخلي بمعظمه للأشخاص من دون مبالغة، من دون موسيقى تصويرية. إذا شاء القارىء أن يرى ترميزاً في هذه الحكايات، فله ذلك. في "احلمي يا سيدي" طبقات عديدة تحمل إحالات في السياسة وفي المرأة وفي تحولات المجتمع الفلسطيني نفسه إن في المخيم أو في بيروت. كل هذا قدمته سارة من دون تدخل أو إملاء على شخصياتها، كأنها بدورها تراقب هذه التحولات ولا تعيها تماماً. لا يوجد مثقف واعٍ يقتحم النص ليجيب عن أسباب هذه التحولات ومآلاتها. ذاك كان سيفسد القصة كما الكتابة الرفيعة. لكن الكاتبة تعرف ماذا تفعل هنا، من الصفحة الأولى وحتى الأخيرة في كتابها الأول الصادر عن "خان الجنوب" تقول سارة أبو غزال إن لها صوتاً خاصاً بها، وهو صوت فريد وأنيق وجذّاب يُحتفى به.
ومع أن سياق الفصول الأربعة يوحى بأن المتتالية ستستمر إلى النهاية على أيقاع السرد نفسه، مما لا يحسب ضدها بكل الأحوال، يأتي الفصلان الأخيران من العالم الصرف للرؤى والأحلام، من الجد الذي يطلب من حفيدته أن تحلم، ثم من الجدة التي باتت بعد موت زوجها وتهجيرها إلى لبنان، هي جذع شجرة أبو سكر في لبنان. هذان الفصلان، باللهجة الفلسطينية الصرفة، يأخذان الحبكة في كل فصل إلى الذروة، إلى نهايتين بالأحرى. تحل فلسطين هنا بوضوح، في لهجة سيدي العالقة ما زالت في البلاد في العام 1948، ولهجة نجمة التي شابها بياض عقود من الغربة. لكنها ليست اللهجة وحدها هي التي تجعل الفصلين الأخيرين هائلين. أظن أنها المهارة العالية، مرة جديدة، في تدوين الأحلام كما نراها حقاً، مفككة وغير منطقية وتبدأ دائماً بكلمة "قال". أيضاً، هناك السؤال الفلسطيني المفتوح. التيه. تيه الجميع، صغاراً وكباراً وموتى. التيه. هل يصلح هذا التعبير في وصف الحكاية الفلسطينية المديدة؟ سارة أبو غزال كانت كلما حاولت أن تجيب عن سؤال في قصصها تخرج بسؤال آخر. هكذا هي الحياة على أي حال. هكذا هي حياة الفلسطيني والفلسطينية أيضاً، مع أسئلة مضافة، وهي كثيرة.. من هذه الأسئلة يبدأ "احلمي يا سيدي" وبها ينتهي، أو لا ينتهي تماماً. يظل مفتوحاً ومتداخلاً بعضه في بعض، كما الذاكرة، كما الذكريات، كما أحلام الناس تظل مبهمة، أحلام الناس موتى كانوا أو أحياء، لا فرق.