شعر الأسر - الجزء الأول
تأليف
عمر شلبي
(تأليف)
كان الفقر مُعلماً نبيلاً، كان يُغري ويُعذّبُ، وعشْنا سنواتٍ عجافاً، ومع ذلك لم يكن الحرمان في بيتنا يشدُّنا إلى جهنم الشّر وإنما كان يُغرينا بالكدح ونشأتْ حالة من الحزن الشّفيف وظلَّتْ تكبرُ معنا بمقدار ما يَنعمُ الآخرون ونُحرَمُ نحن. للفقر قدسية عجيبة حين تَلبسُهُ الأرواح الجائعة إلى النور. كان معلماً قاسياً ولكنّنا ألفناه كما تألفُ تلك البهائم جوعَها وتستمرُ في الحياة. لم يحوّلْنا الفقر لصوصاً، وأعطانا قنديلاً للدخول إلى الأكواخ الفقيرة وإدمانِ الجوع مع أصحابها والإحساس المشترك بالترفُّع عن الدنايا. لم يكنِ الفقر قدّيساً، ولكن كان معلماً، لقد غسلَ أعماقنا من الدناءة التي يجلبُها الإقطاعي وهو يأخذ نصف محاصيلنا مع أنه لا حفرة في يده ولا شقوق ولا أشواك شبرق ٍ وبلان. كان يأكلُ بلا تعب، وكنا نتعبُ ونجوع، وأعتقدُ أنّ هذه الرؤية المُرّة للواقع هي التي حرّضتْني على الانتماء السياسي الحادّ الذي قذفني باتجاه مواقع كل البائسين في وطني وأمتي لأشاركهم محاولة قهر الفقر. كانت وحدة القرية في مآسيها وأفراحها أول معلم سياسي لي دفعني إلى الإيمان بوحدة الوطن والأمة. الفقر أغراني بحوّاء، فالفقراء يحبّون أكثر من الأغنياء لأنّهم جائعون وطبعاً يكرهون أكثر لأنهم جائعون أيضاً، كانت حوّاء ضوءاً في الظلام، وعبرها تعاملْتُ مع الكون والكلمة.