السير الذاتية طالما كانت مكبّلة بالتوجس والخيفة كونها تعبير صادق مباشر تمس الشخصية المعبِرة عنها ولا يخفَى على أحد الذكورية الغالبة على القراء والتصيد والتصانيف القاهرة ولكن في رحيل ،في سيرة ذاتية لجيني ،عبرت بكل طاقتها ومعارفها ووجدانها بدون خوف وبدون حيطة وبدون حذف وبدون استخدام الممحاة أكثر من القلم"فقد وجدت المرأة في جنس السیرة الذاتية ميدانا ثريا لإقامة علاقة حميمية مع الذات المقهورة والمهمشة لاستعادة هويتها المغيَّبَة" .ولا يخلو أي عمل أدبي من التخييل الذاتي ولا من الخلق الفني لأن كتابة الوقائع والأحداث بدون عسل المخيال يعتبر كتابة تقارير صحفية وثائقية وهذا الوعاء الذي حوت فيه جيني عالمها حُبِك بحرفية عالية.
"رحيل"سردية شعرية تستسقي متنها من الذاكرة والذكريات ،من ماضوية مُحلاة بحداثة شعورية وبرؤى وجودية.اللغة سهلة ممتزجة بعمق التأملات وهنا تكمن شفافية التصور فاللغة في النص ذوقية صادقة أي لا تخضع للنقد الكهنوتي.
استعملت جيني الشخصية كحامل للأمكنة وللازمنة فنرى في سيرتها هوية الكثير من الأمكنة والكثير من الأزمنة والوثب الناعم بينهما،كتقاطيع منغمة الأحداث والمواقف.
نبدأ من الدفة الأولى بالاهداء إلى الحيارى الذين عذبتهم المرافىء والمتاهات والهائمين بلا جهة حيث المولَى لهم أو المنادَى هو الشخصيات تلك التي زارت ما زارت من المعاني وخبرت ما خبرت من التجارب،هم الحقيقيون أمثالها.
استخدمت جيني الحيادية والموضوعية في تناول شخصيتها والشخصيات المشترِكة معها فلم تتلاعب بها الأهواء ولم يظهر الايجو المنتشر في عالمنا العربي كمركوز رئيسي في الشخصية وذلك لم يُغفِل الكتابة الذاتية ولكن ذاتية بدون معنى الانغلاق المعرفي والدلالي بل بمعنى الصدق الشفيف فالسيرة تشترك دلاليا مع الكثير من الناس وتؤثر فيهم وتستأثر بهم.
تدور "رحيل"عن مفاهيم كثيرة أبرزها الحب،تحديده،كيفية الشعور به،كيفية الاختيار،كيفية التأكد من الاختيار،الحب الحقيقي ..الخ،بملابسات جميلة للقيام بذلك ونثر تستوضح فيه الشخصيات أفق الأمر على حسب أرضياتها المعرفية.
الحب كمفهوم أعظم جارف يختبره الجميع بأشكال مختلفة ولا تحدده ثقافة معينة أو دين معين ففي "رحيل"نجد العلاقة الاولى بين ماجي وناجي ومفهوم الخيانة التي تمت بين ماجي وزوجة صديقه وعدم الغفران من ماجي لذلك الأمر وعذاب ناجي ودخوله في صومعته لمدة عشر سنوات والتقاءه الصدفوي القدري برحيل وهذه المواقف والأحداث الاولى الانجذاب التي تثبت من خلالها جيني أن ربما قدرا لا ينتسب أو مجهولا لم يتم الكشف عنه بعد كيفية الانجذاب بين المتعاطفين مستقبليا وبحثه الدءوب عنها وخلقه لهذا العالم الذي يمكن أن يجمعه بها وأن تحقق ذلك بإرادة مجهولة.
وعلاقة رحيل برام الهندوسي وحديثهم الشيق والمعبر عن هذا الكنه الشاعري للذات الإنسانية وتدفق المحبة بلا معرفة حتى بالطرف الاخر.وتترواح الأسئلة لمن يقرأ عن معيارية الحب الحقيقي وسأحاول أن تفصح عن رأيي في ذلك أن العوالم الممكنة التي يمكن أن تجمع أي ذات إنسانية مع آخرين كثر يمكن أن تنقل هذا الحب الحقيقي لآخر آخر،بمعنى أن الاحتمالات البيئية. والارادية هي ما تحدده وقد ترد هذه الاحتمالات لجبريات وقد لا،اي أننا نحب من جعبة الأشخاص الذين نعرفهم والذي اتاحت الصدفة أو الأقدار أن نلاقيهم ونعرفهم لكن ذلك لا يمنع أن هذا الذي تعينا معه وعرفناه واحببناه لم تكن ببننا تجلي وتمثل للحقيقة،بل نظرتي تلك هي نظرة عامة غير معينة فرحيل أو كانت خبرت صدفة في البار مع أحد آخر كانت ممكن أن تحبه مثلا،لكن ذلك لا يعني أنها لم تحب ناجي أو رام.
العلاقات مزّمنة دائما أي علاقة ،حتى علاقة الإنسان بذاته فلا تبقى العلاقات كثيرا وليس هذا عطبا معنائيا في الحب نفسه بل في الظروف والمعطيات التي تجتاح ذواتنا في هذا العالم المتغير وحتى لا توجد علاقات أبدية بيننا وبين المعاني فهي تختلف مع الثقافة الداخلية لنا.
التجليات الشعرية في رحيل:
تحرك رحيل وحيا كثيرا في أفق القاريء بغض النظر عن لغتها الشاعرية بل في استخدامها للشعر كأقوى معبر عن المعنى وفي حالة السيرة عن الحب حيث أن الشعر مجالا أكبر للتخلص من تعيينات الدين والواقع إلى فيض الشعور الخالص الصافي.