"نحن نواصل السقوط في نفس الحفرة، هل تفهمين؟ أعنى، نحن نتعلم المزيد والمزيد عن الكون المادي، والمزيد عن أجسادنا، والمزيد عن التكنولوجيا، ولكن بطريقة ما، عبر التاريخ، نحن نستمر في بناء إمبراطوريات من شتى الأنواع، ثم ندمرها بطريقة أو بأخرى. نحن نستمر بخوض حروب غبية نبررها، ونتحمس لها، ولكن في النهاية، كل ما تفعله هو أنها تقتل أعداداً هائلة من البشر، وتُشوه الآخرين، وتُفقر الكثيرين، وتنشر الأمراض والجوع، وتمهد السبيل لحرب أخرى. وعندما نلقي نظرة على التاريخ ونرى كل ذلك، نكتفي بنفض أكتافنا بلا اهتمام ونقول، حسناً، هكذا تجري الأمور. لطالما جرت الأمور بهذه الطريقة."
نُكمل حكاية "لورن أويا أولامينا" في الجزء الثاني بعنوان "مثل الوزنات"؛ وهي كعادة السلسلة مشتقة من أحد مواقف وتعاليم الدين المسيحي، وهو مشروح باستفاضة في مقدمة الرواية، وأيضاً بداخل الأحداث، والوزنات مُلخصاً هي المواهب والقدرات التي يهبنا إياها الله، ويضعنا بين أن نُحسن استغلالها أو نتركها كما هي فنسيء استغلالها وتصبح بلا فائدة، وتتخذ "أوكتافيا بتلر" من هذا المثال خطوط عريضة لحكايتها في الجزء الثاني، فبعد التطلعات الهائلة في الجزء الأول للورن، وما سيحدث، وفي انتظار المغامرات التي ستخوضها، تلعب "أوكتافيا" بالسرد، فأحياناً نقوم في مستقبل "لورن" مُتمثلاً في ابنتها، وحاضرها مُتمثلاُ فيها ومعاناتها والنجاة التي أصبحت مُتمرسة فيها، يتناقل السرد بين الأم والابنة ليتضح التباين والاختلاف الجذري في أفكار كلاً منهما، وذلك كان منطقياً طبقاً لطريقة التربية التي مرت بها كل واحدة، والعلاقة بينهما التي تشابكت وتعقدت وانحلت وفُكت لنكتشف أن تلك التشابكات والتعقيدات المبنية على البعد يأتي بعدها تشابكات أخرى أكثر تعقيداً وتشابكاً، أنها حكاية مؤلمة، من كل الزوايا التي تنظر منها، ورغم أن "لورن" كانت كالعنقاء التي تنهض من رمادها المُحترق، ولكن، من يقول أنه ليس هناك ثمناً دفعته لقاء ذلك؟
ثنائية "مثل الزارع" و"مثل الوزنات" واحدة من أهم سلاسل الخيال العلمي الواقعي –لو كان هناك مصطلح كذلك- فهي لم تشطح بتوقعاتها في التقدم والتطور، ولكنها خمنت وتوقعت بذكاء شديد وبقدرة هائلة على الربط والتحليل من الكاتبة "أوكتافيا بتلر" بين واقعها وقت كتابة تلك الرواية في عام 1998، ورؤيتها الخاصة للمستقبل وشكله واضعة الولايات المتحدة كنقطة ارتكاز، سياساتها ودور الكنيسة فيها، القدرة على الحشد والتوجيه، أحب أن أطلق على هذه الظاهرة "التجييش"؛ أن تقوم بعمل جيش من الناس لهم القدرة على القتل والحرق والسحل من أجل نشر وفرض آرائهم، وعندهم القدر الكافي من حب الدين أو الوطن الذي يجعلهم يبدعوا في قتل واغتصاب وسحل من يعارضهم، وفي نفس الوقت يرون أنفسهم أقرب إلى الله والوطن، وهم بشكلاً ما أعلى وأكبر من البقية. تغوص الرواية في تفاصيل مؤلمة عنيفة ودموية، ولكنك تصدقها بسهولة رغم سوداويتها، ليقينك بأنها حدثت أو تحدث أو ستحدث في هذا العالم المجنون، تعج مواقع التواصل الاجتماعي بالمهووسين والمجانين الذي يريدون القتل في سبيل نشر آرائهم والانتصار عليك، لذلك، تجد كل الأحداث الدموية والعنيفة على خيالها، واقعية! إنها خصائص العصر الذي نعيش فيه، أن كل شيء أصبح قابلاً للتصديق.
مُقدمة الرواية المكتوبة من قبل المترجمة "رنيم العامري" –التي قرأت لها من قبل ترجمتها لرواية "نمر الليل" ومن الواضح الجهد المبذول في كل ترجماتها- فقد تم شرح فيها رمزية الاسم وبعض التفاصيل الهامة حول الثنائية التي حزنت عندما علمت أنه كان من المُقدر لها أن تُصبح ثلاثية لولا الظروف التي صاحبت الكاتبة من تدهور سببه الاكتئاب وحبسة الكتابة وبعدها أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم الذي أدى في النهاية، إلى وفاتها، وكل ما تبقى عن الجزء الثالث الذي كان من المفترض أن يكون عنوانه "مثل وكيل الظلم" بعض الهوامش والمخططات، فهل يقدر أحد الكتاب بعد أكثر من ربع قرن على هضم وفهم ما حاولت "أوكتافيا بتلر" إيصاله، ليكتب لنا الجزء الثالث، بعدما اصابت العديد من التوقعات وخصوصاً شعار ترامب "لنجعل أمريكا عظيمة مُجدداً" الذي جاء على لسان رئيس الولايات المتحدة بداخل أحداث الرواية –أعيد الذكر أن الرواية صدرت عام 1998-، أتمنى ذلك رغم أنه صعب للغاية، فما قامت "أوكتافيا بتلر" بعمله فريد من نوعه، دقيق في رسمها للعالم وخرابه، ومؤلم في طبيعته أيضاً، ومزج الخيال بالواقع كان شديد الذكاء وينم عن قدرة هائلة في توقع المستقبل وأيضاً الكتابة عنه.
ختاماً..
رغم أن الثلاثية غير مُكتملة، لكني أظن أن الثنائية تفتح الذهن لآراء وأفكار عديدة، تجعلك تطرح أسئلة عديدة عن حياتنا، وعن اختياراتنا، وعن غاية وجودنا وماذا نُريد أن نتركه بعدنا؟ إنها دعوة للعودة إلى التحضر والتفكير العاقل البعيد عن الدخول في حروب لا نجني منها إلا أن نتأخر أكثر، هذه السلسلة بمثابة كابوس سوداوي نتمنى ألا يحدث لنا أبداً، وإن حدث فلنحرص على أن نستخدم وزناتنا بشكل صحيح، لعلها تكون المُنجية.
بكل تأكيد يُنصح بها.