ثمة حكايات غير قابلة للمحو والنسيان
كوشم في الذاكرة
كأثر حبل سري في جسد
كخارطة وطن لايمحوها غزو
هكذا كانت طشاري
"طشاري"
رواية تشظت داخل أوردتي بطلقات متتالية من فوهة قلم "إنعام كجه جي"فاستقرت كل شظية في مكان بعيدًا عن الأخر
كل شخصية أسكنتها الكاتبة بداخلي في مكانها المناسب كمقبرة "إسكندر" الإفتراضية التي صممها لجمع أشلاء الأحباب، وأحتلت "وردية" بداخل جسدي صحن الجسد (الفؤاد) وملكته
لم ينجو أحدًا من صيد الكاتبة إلا وقنصته وملصته من رحم الطبيعة،ثم أمسكته من أرجله وطشرته فوق السطور لكي تمنحه الحياة
بغداد في الصباح ،، رائحة المطر ،،ثلوج كندا حتى صوت فيروز،وفريد وأم كلثوم كمشتهم كمشة قابلة ماهرة من رحم الذاكرة
أهل دجلة والفرات والموصل والديوانية ،شمال وجنوب العراق وكل أبنائه مسيحيون ومسلمون ويهود ،وأكراد ..كل الذين عاشوا في بلدهم العريق ..عاشوا كأسماك نهر دجلة المختلفة الأشكال والأجناس،والتي كانت تسير جنبًا إلى جنب في سلام، إلى أن حدثت فتنة البحر بأمواج مغرورة ،فلفظت الأسماك كافة بإهانة وطرحتها خارج أحضانه .
أتخيل وردية وهي تسألني في النهاية بقامتها المنحنية كثمرة موز ناضجة ،وبذاكرتها الملتهبة بالشخوص والحكايات والبيوت والتي تتناسب طرديًا مع الحنين الذي خلفته داخلي أتخيلها وهي تقول لي:
أأعجبتكِ العراق؟
فأجيب.. آلمتني العراق ولوعتني الغربة
كرهت الغرب بصلفه ،صحيح أن الغرب منمقًا ومرتب(ولايزال)
والشرق فوضوي وعبثي(ومازال)
لكن الغرب بلا قلب ،زمهرير بلاده طغي على دفء القلوب، فخلف أياد بيضاء لاحمرة ولا نبض، فيها،كأيادي البابا التي صافحت وردية في باريس
أما عن الشرق فحضارته باقية وقلوبه دافئة وإن تشظى أهله وتشطروا في البلاد ستظل المرأة عندهم هي الأم والحضن ،أما عن هؤلاء النساء الحبلى بأحزمة ناسفة، وينسبون إلى الشرق أو إلى الإسلام، فهن إما سافرات، أو انهن اغتصبن من خارج البلاد من عصابات أميركية صهيونية ،وأبناءهن أبناء خطيئة وأبناء الخطيئة ليس لهم أوطان، ولا دين.
الشخصيات النسائية في الرواية كانت لها الصدارة ،مررتها الكاتبة مرورًا حُر ،فتعرفت على كل نخلات العراق الباسقات ،بدءًا ب "وردية " وإنتهاءًا ب"بستانة"التي تمنيت أن أنام فوق صحن جلبابها الريفي الدافئ كما كانت تنام"هندة" ،وألثم كفوفها الطيبة التي تشبه أرض بغداد والموصل
أحببت" هندة " الفتاة القوية الرقيقة المكافحة كأمها (أم دميعة) بلهجة الكاتبة العراقية، فدموع هندة الساخنة على وجنتيها ،كانت قادرة على أن تذيب ثلج كندا وتحيله نهراً دافئًا
أعود ثانية لوردية الزوجة والأم والعمة والطبيبة
وردية التي إختصرت الكاتبة كل حضارة العراق في شخصها
كالمبنى الذي رحلت إليه في شبابها وعلى حد قول الكاتبة(مبنى يختصر دوامها وإستراحتها وأوجاعها وحبها) فكذلك وردية
كيان يختصر الدوام والإستراحة والألق والأوجاع والحب.
وعن الشتات
لم تنسى الكاتبة ذكر شتات العالم كافة
فكان "غسان الفلسطيني" شتاتًا أخر ووجع أخر
وشتات من أسموهم الهنود الحمر التي عاشت معهم الإبنة هندة وأحبتهم.
قرأت الرواية في ثلاثة أيام ،وكان بإمكاني أن أنهيها في ليلة واحدة ،لكنني كنت أقضمها كقطعة شيكولاتة أخاف أن تنتهي ،فكنت ألتهمها بحرص
وضعت بجانبي ورقة وقلم لكي أقتنص الإقتباسات التي أعجبتني ،فوجدت أنني نقلت ثلاثة أرباع الرواية،فلغة كجه جي باسقة ،فارهة كقامة نخيل بغداد ناعمة كشعر بلقيس الراوي) حبيبة نزار
(لا شئ يمضي وينتهي ،لا ذكرى تخبو وتمحى)
نعم ياسيدتي ستظل هذه الرواية حية في ذاكرتي ولن تخبو تفاصيلها أوينطفئ الحنين لشخوصها.
إقتباسات
(خمسة زائد خمسة حتى ضاع الحساب)
تشطب وردية أعداد الراحلين كلما إكتملوا خمسة حتى تعبت من العد
_الوطن ليس مجرد تفاصيل انه ياقوت العمر
_أخذوا الموسيقى واعتذروا عن الرقاد
_كل شئ ينمو ويزدهر حتى الموت،حتى عمتي أنظر إليها فأراها تتراجع في العمر وتقترض شيئًا من ألق الصبا،بدل من أن تتقدم في الشيخوخة
اكتفى البياض بما غنم وترك لها الباقي ،تتباهى به).
هناك مساقط للرؤوس وأخرى للأفئدة
-خروجنا من بين قوسي الوطن قد وضعنا في خانتين متعاكستين من العقوق. لم أكن بارّة به لأنني أفلت من فكيه المفترستين باكراً
و مضيت بدون رجعة. و كان الوطن عاقاً بها ، نبذها و هي في آخر العمر و لم يشملها بخيمة حمايته.
هل يعوّض تفانيها عن تقصيري فتتعادل كفتا الضمير؟
-وأخيرًا الوطن ليس مجرد تفاصيل..إنه ياقوت العمر).
صدقًا هذا هو الوطن.