يعرض فجر يعقوب في كتابه الصادر حديثاً عن منشورات المتوسط «عمر أميرالاي: العدسة الجارحة» ما يمكن وصفه ببورتريه ترسم ملامح لمسيرة أحد أهم المخرجين الوثائقيين العرب من خلال تقديم دراسة معمقة تتعدى الشكل الخارجي لأبرز أعماله السينمائية والّتي بدورها تَبرُز اليوم كأحد أصدق الوثائق المصورة على الفترة التي عايشها. وربما يفسّر صدقها أنها خرجت من كاميرا مخرج وهب حياتها للسينما الوثائقية ولم
يُخرج غيرها.
❞ رحل عُمَر أميرالاي فجأة دون مقدِّمات (شباط - فبراير 2011) رحل صاحب (الحياة اليَوميَّة في قرية سُوريَّة) من دون أن يشعر للحظة بخيانة الفيلم الوثائقي له، فقد أخلص له ككائن حَيٍّ، كما لم يخلص له أحدٌ مثله، وكأنه لم يكن مُدرَّباً في هذه الحياة على سواه. ❝
يُظهر الكتاب ومن أول فصوله ثورية عمر أميرالاي، وأسلوبه القائم على إعادة تشكيل للواقع، يَظهر ذلك جليّاً في أفلامه الأولى «الحياة اليومية في قرية سورية»، «الدجاج» التي تحمل في طيّاتها نقداً للواقع السياسي والإجتماعي السوري آنا ذاك مما أدى إلى التعامل معها بإجحاف عبر سياسة المنع والحجب. لم يمنع ذلك أميرالاي من الإستمرارية في صناعة ما أحبه وربما أعطاه ذلك فرصة أكبر فقد صنع أفلامه في دول عديدة مثل مصر ولبنان. يقدم الكتاب دراسات عديدة لبعض تلك الأفلام مثل «الحب الموْؤود»، الذي يتعرض لحياة مجموعة من النساء داخل المجتمع المصري أو «الرَّجُل ذُو النَّعْل الذَّهَبِي» عن الرئيس اللبناني الراحل رفيق الحريري. يعرض الكتاب ومع كل دراسة لفيلم أجزاء مهمة من خارج الفيلم، قد تكون أحياناً ذكريات لها علاقة بالفيلم حصلت مع الكاتب لتبيّن جزءاً من الصورة لا يمكن ملاحظته من خلال المشاهدة فقط. أو قد تكون لمحات عن حياة بعض من اصدقاءه الذين صنع عنهم أفلاماً لكي تعطي القارئ الصورة الكاملة قبل قراءة التحليل النقدي للفيلم، كصديق المخرج المفكر ميشيل سورا الذي يحمل قصة مأساوية أعاد أميرالاي رسمها في فيلمه «في يوم من أيَّام العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا»، أو فيلم «وهُنالِكَ أَشياءُ كثيرةٌ كان يمكنُ أن يتحدَّثَ عنها المرءُ» الذي يصور فيه المخرج لقاءاً أخير مع رفيق دربه سعد الله ونوس وهو على فراش الموت. هنا لايكتفي فجر يعقوب بالحديث عن الفيلم فقط بل يذهب لأبعد من ذلك في حياة سعد الله ونوس وأميرالاي وجيلهما وما ارّقهما من قضايا سياسية وإنسانية على مدار حياتهما كان أبرازها القضية الفلسطينة.
❞الفيلم إشكالي بالرغم من أنه يلجأ إلى لقاء مُطوَّل مع المسرحي الراحل، وهو على سرير المرض، وقد أنهكه داء السرطان، وكلّ شيء من حوله يوحي بالخِذلان، والضعف، واليأس، والتفكُّك، والانزياح باتِّجاه «مزاج جنائزي» ميَّز ونُّوس في أيَّامه الأخيرة، وهو لا ينكر ذلك بالطبع، بل إن هذا المزاج يصبح مفردة أثيرة، يسبح فيها عموم الفيلم، وقد سوَّرتْهُ مُركَّبات النقص التي عانى منها جيل ونُّوس - أميرالاي، إثر مجموعة من الهزائم المركَّبة التي تتالت، ولعبت دوراً كبيراً في تقصير، أو في هدم أعمار مَنْ هم أبناء هذا الجيل تحديداً. ❝
يختتم فجر يعقوب كتابه بالحديث عن أول أفلام المخرج «عن سد الفرات» الذي يصور عملية الإنشاء لأحد السدود التي رافقت مشاريع كثيرة أنشأها حزب البعث مطلع السبعينات يقدم رؤية أبعد عن طبيعة الفيلم وعن الرابط بينه وبين جميع أفلام المخرج السابقة و بالأخص آخرها «طوفان في بلاد البعث» والذي تعرض له الكاتب في فصلٍ سابق. للوهلة الأولى يبدو الفيلم وكأنه تكفير لذنب فيلمه الأول الذي صوّر فيه احد مشاريع هذا النظام، لذلك يرسم في هذا الفيلم صورة نقدية لاذعة وتكاد تكون الأكثر جرأة في مسيرته. نحن أمام صورة مصغرة للنظام الذي أطبق على سوريا طيلة أربع عقود وحولّها لأشبه بمقبرة للفكر والفن. يحكي الفيلم قصة احدى القُرى التي يحكمها أقدم عضو برلماني سوري، وكيفية تثبيت حكمه على القرية وتوريث فكره للجيل الذي سيأتي بعده. أليس هذا التشبيه واضحاً لكل ذي عقل؟. يعطي الكاتب بعداً اخر للفيلم ورؤية مميزة وربما كان من الضروري تأخير الحديث عن أول أفلام المخرج إلى النهاية لرسم ملامح صورته السينمائية بشكل أوضح. فنحن لا نتحدث عن فيلم خرج من رحم النظام ليصور إنجازاته، ولكن فيلم فني لا يخلو من جماليات النقد كباقي أفلام أميرالاي، ويكفي أنه شكل إنطلاقة هذا المخرج المبدع.
نجح فجر يعقوب في أن يرسم بورتريه متكاملة تطال جميع زوايا مسيرة المخرج الكبير التي تنوعت تنوعاً شديد. ولم تنفك عقدة الفيلم الوثائقي عنه حتى قُبيل وفاته فقد كان يجهز لفيلم لم يشهد النور وهو «إغراء تتكلم». رحل أميرالاي وترك ورائه مسيرة سينمائية حافلة كان تفتقد للدراسة الجادة وقد تمّ ذلك بالفعل بصدور هذا الكتاب المهم.