"تم الزج بالإنسان في مؤامرة من الأكاذيب. في عالم يتكيف مع الكذب، في مجتمع مبني على الأكاذيب وبيولوجيا اختلقت من أجل الكذب. ولهذا فإن كافة الأنشطة الإنسانية مرتبطة بفعل الكذب."
كتاب "تاريخ الكذب" للكاتب الاسباني "خوان رنخيل" كان بمثابة مفاجأة جميلة بالنسبة لي، فبعد روايته المترجمة الأولى "مُخيلة قاتل"، تصورت أنني على موعد مع رواية من نفس العالم المجنون لاكتشف أن الكاتب جاد، عن تاريخ الكذب، كتاب يحتوي على جميع الأنماط المختلفة لتحليل الكذب، فلسفياً واجتماعياً ونفسياً، وحتى أدبياً، كيف أن الكذب حولنا في كل مكان، حتى في أبسط الأشياء وأشدها تعقيداً، حتى في الخرافات والخيال والحكايات، وأكثر الحقائق إثباتاً، هناك كذب خلفها، يتوارى، شعرت أن الحقائق تبدأ كإشاعة ولكن من كثرة ترديدها تُصبح حقيقة! فتلك الحقيقة المُثبتة هي في الأساس كذبة كبيرة، ساعدنا على وجودها وخلقها من العدم.
الكتاب مُقسم لفصول عديدة، كل فصل يسلم الراية للفصل الذي يليه بسلاسة، التنقل المرن والمنطقي بين مواضيع الفصول، ربما البداية كانت صعبة بعض الشيء وصادمة، لتعمقها في الأديان، والخلق والخليقة، وبعض الأفكار التي قد نختلف حولها، ثم التنقل إلى مواضيع أكثر ألفة وراحة، لتخرج من كل فصل بدهشة من الكذب الذي لم تتوقع أن يكون مُتجذراً في حياتنا بهذا الشكل.
لكن معلومات جامدة كالتي يقولها الكاتب كانت تحتاج لسمتان هامتان، لولا تنفيذ الكاتب لهما، لأصبح هذا الكتاب مُنفراً، فأولاً، طريقة نقل المعلومة والحكايات، لم تكن من قبيل أن الكاتب يفرضها عليك فرضاً ويُحاول إثباتها وإقناعك بها، لا، على العكس كما قال المترجم في مُقدمته؛ أنه قد نختلف مع الكاتب في بعض الأفكار، ولكن الكاتب كان يطرح المعلومات والأفكار كأنه يقولها لمجرد الذكر، لا اجبار في التصديق، وذلك خلق نوع من الراحة بينك وبين الكاتب، فعندما تختلف معه مثلاً في أي موضوع، سيكون من قبيل الاختلاف الحميمي الذي ينشأ بينك وبين صديقك، وليس من ذلك الاختلاف القوي الذي قد يُنفرك من قراءة باقي الكتاب. السمة الثانية هي طريقة سرد المعلومات بشكل قصصي بارع، فأضاف عنصر المتعة على المعلومات التي تُحكى، وأصبح من السهل تذكرها، وفهمها، وتلك هي السمة الأكثر أهمية في الكتاب التي تجعله مُختلفاً عن أي الكتب الجادة التي قرأتها من قبل.
ختاماً؛
كتاب مُمتع وشيق، مبذول فيه جهد جبار من الكاتب، وذلك وضح من كم المراجع الهائلة في نهاية الكتاب، وحتى في خلال الفصول، مما بالتأكيد يُبين حجم الجهد الذي بذله المترجم في نقل كل ذلك بنفس السلاسة والمُتعة. والمحصلة النهائية هو كتاب تاريخي فلسفي اجتماعي نفسي، وبلمسة كاتب يعرف كيف يحكي ويقص، ويسخر بالطبع.
بكل تأكيد يُنصح به.