يقول يوسف إدريس أحد أشهر روّاد القصّة القصيرة:«إنّ القصّة القصيرة رصاصة تصيب هدفها مباشرة»، ويبدو أنّ القاصّة التونسيّة نجيبة الهمّامي قد أطلقت بنجاح قصص مجموعتها الأولى «ليلة رأس ميدوزا» في الساحة السرديّة التونسيّة بعد طول تأنٍّ في انتظار طلقات صائبة أخرى.
فليلة رأس ميدوزا أو ميدوسا هي باكورة أعمال نجيبة الهمّامي القصصيّة صادرة عن دار سؤال البيروتيّة منذ سنة تقريبا في طبعة أنيقة من الحجم الصغير في سبع وسبعين صفحة، تؤثثها عشر قصص قصيرة صدّرتها المؤلّفة بتقديم أنيق للشاعر التونسيّ الكبير المنصف المزغنّي.
يبدو للوهلة الأولى أنّ الكاتبة توفقّت منذ العتبة الأولى للنصّ، في اختيار عنوان يجمع في نفس الوقت بين الأناقة والغموض، مثّل حاملا أو وعاءً معرفيّا من روح الميثولوجيا الإغريقيّة لمتنها القصّصيّ، ذلك أنّ ميدوسا إبنة بورسيوس إله البحر كانت في البدء فتاة جميلة، ادّعت أنّها أجمل من أثينا وشعرها أجمل من شعرها، ومارست الجنس مع بوسيدون في المعبد، الأمر الذي أغضب أثينا وجعلها تنتقم منها، فحوّلتها إلى فتاة بشعة الوجه، كما حوّلت شعرها الجميل إلى ثعابين. وكان كلّ من تغويه أثينا تدفعه للنظر في عيني ميدوسا فيُمسخ إلى حجر. وبما أنّ ميدوزا كانت قابلة للموت فقد تمكّن برسيوس يمساعدة هرمس من قطع رأسها ليهديه إلى أثينا قبل أن تضعه على درعها المسمّى بالإيغيس فيما بعد.
هكذا تضعنا الكاتبة نجيبة الهمّامي منذ البداية أمام تحدٍّ معرفيّ، أمام مأزق العنوان إن صحّ التعبير، فكان لزاما على القارئ أن يتناول المجموعة من هذا المدخل بالذات مدخل ميدوسا والميثولوجيا الإغريقيّة ليتفرّع بعد ذلك في متاهة جميلة من الحكايات.
نجحت نجيبة الهمّامي في اجتراح دراما تونسيّة صرفة بطلتها ميدوسا تونسيّة، غلّفتها بغلاف الكوميديا السوداء، حيث قدّمت لنا ميدوسا تونسيّة سواءً أكانت فتاة مثقّفة خرّيجة جامعة وتبحث عن عمل، أميّة بسيطة، مومسا متسلّقة، زوجة يقلقها إهمال زوجها، أوفتاة تتوق للأمومة ويقلقها الحمل الواهم، لا تقّل جرأة ولا ثوريّة عن ميدوسا اليونانيّة. فعلى امتداد قصص أنف الجبهة، مريم-نت، يوم فرح، نزف، ذهب مع السيل، سعيدة في البلاد السعيدة، ليلة رأس مديوزا، رغبة، تمرّد الأصابع ونرمال، تنتصب فيها الأنثى بطلة ثائرة، ساخرة، وقحة إلى حدّ ما، تبحث في علاقتها بالرجل في مجتمع ذكوريّ صرف، عن عدالة مستحيلة، عن فحولة رجاليّة مخصيّة عن معالم مجتمع يغرق في طابواته وفي فوضاه.
فإذا كانت ميدوسا قد تجرّأت على تحدّى أثينا، ومارست الجنس مع بوسيدون فإنّ سعيدة الفتاة خرّيجة الجامعة فعلت ماهو أكثر جرأة، حيث قدّمت ملفّا لوزارة الدّاخليّة التونسيّة من أجل أن يتمّ إنتدابها مومسا، متحدّية خطوطا حمراء مثل مجرّد الاقتراب منها احتراقا في العهد السابق، مثلما أقدمت مريم على اغتصاب طبيب النساء في عيادته كي تضع حدّا لحملها الواهم المتكرّر.
تبدو نجيبة الهمّامي مالكة لتلك العين الثاقبة، ترصد بها ما ظهر وما خفي من تفاصيل المرأة التونسيّة، تبدو ممتلئة بتلك التفاصيل الصغيرة، تحرّكها في كلّ مكان، تجعل منها أصل الحكاية ومدارها الرئيس وحبكتها الأساسيّة، ففي قصّة يوم فرح تحدثنا الساردة عن فرح التي قرّرت إزالة ظفائر شعرها المستحدثة التي لم ينتبه لها زوجها, ومرّ عليها مرور الكرام، أو حينما تدخل الكاتبة في سجال مع أصابعها تسائلها عن سبب احتباسها عن الكتابة، هي التي أجزت في تدليلها بطلاء أظافرها، وتدليكها بمختلف أنواع المراهم والزيوت في قصّة تمرّد الأصابع.
نلمس عند الكاتبة وعيا متقدّما بوضع المرأة التونسيّة المتأزم في محيطها الإجتماعيّ والإقتصاديّ والسياسيّ على الرغم مما انتزعته من مكاسب لم يكن لغيرها أن يحصل عليها. في هذا الإطار تقدّم لنا صورة بلا رتوش، بلا مكياج لمجتمع تونسيّ ما بعد الثورة غارقا في الفوضى، تحكمه الإنتهازيّة، والصراع المرير بين طبقاته أين تظهر فيه المرأة الحلقة الأضعف للأسف. وذلك ما يفسّر في بعض الأحيان قسوة مبالغا فيها على الرجل، تصل في بعض الأحيان إلى ساديّة، مثل التي تلمّسناها في تلذذ شخصيّة ميدوزا المومس بإيذاء عبد الله نفط في قصّة ليلة رأس ميدوزا، حيث أنهكته بتجاهلها بادئ الأمر، ثم حوّلت قضيبه إلى حجر قبل أن ينال منها وطره.
تحلم نجيبة الهمّامّي بإمرأة نموذج، إمرأة قويّة متحرّرة من مجتمع ذكوريّ. نشعر بها منذ البداية تقلّب في شخصياتها النسويّة عن الأنثى المثاليّة. وهي ليست بالضرورة امرأة منمّطة من تلك اللواتي يشار إليهنّ بالمتعلّمات أو الغنّيات أو الجميلات. إنّها في الحقيقة أنثى من نوع آخر أنثى غير موجودة سوى في خيال الكاتبة، لعلّها ميدوسا اليونانيّة، أوعلّيسة ديدون الفينيقيّة، ولعلّ أهمّ سماتها قوّة الشخصيّة كـ«الجبهة» تلك المرأة الحديديّة في قصّة أنف الجبهة أولى قصص المجموعة.
لا شكّ في أنّ نجيبة الهمّامي اشتغلت بوعي كامل على نصوصٍ للقارئ سواء كان ذكرا أو أنثى، للقارئ، للإنسان بصفة أشمل، غير أنّها انحازت أحيانا بغريزتها إلى المرأة التونسيّة وانتصرت لقضاياها وهذا مفهوم باعتبار أنّ الكاتب هو نبيّ مجتمعه وعصره. ولا شكّ أيضا أنّها رصدت لنا لحظات استثنائية، اقتنصتها بعدسة مصوّر محترف من المجتمع التونسيّ، لحظات لا يمكننا التفكير في ما قبلها أو بعدها، لحظات لا تصلح معها سوى القصّة القصيرة على حدّ تعبير أبي القصّة الفرنسيّة غي دي موباسان.