تغريبة بني همام .. رحلة الأمل والشتات
تأخرت كثيرًا في قراءة هذه الرواية، الصادرة مطلع ٢٠٢٠، ولكنها جاءت لي تتهادى في أخيرا، ربما لأني أعرف أحمد جاد الكريم، وأعرف أن كتابته ستعجبني حتى قبل أن أقرأ، والحقيقة أن أحمد جاد تجاوز توقعاتي في هذه الرواية برحلته الجميلة وبحثه التاريخي المطوّل وإمساكة بتفاصيل مميزة في المرحلة التاريخية التي يحكيها، وتبني عدد من الشخصيات المهمة والتاريخية.
يعود أحمد جاد إلى جزء منسي من تاريخ مصر والمصريين في الصعيد، إلى سيرة "شيخ العرب همام" فيحكي أطرافًا من حكايته من خلال حفيده همام، ويحضر في الرواية أيضًا المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي صاحب "تراجم الآثار" وحكايته التي يرويها عن أحوال القاهرة أثناء الحملة الفرنسية، والصراع بين المماليك والفرنسيين، وكيف سعى وجاهد همام حفيد شيخ العرب لكي يزيد وعي الناس ويجعلهم يدركون أن المماليك والفرنسيين سواء، يريدون أن يستولوا على مصر ويستعبدوا المصريين.
استطاع أحمد جاد أن يتمثل تاريخ المرحلة التي يحكي عنها، وشخصياتها، ويعبّر عن المصريين في تلك المرحلة التاريخية من خلال خطين سرديين متوازيين، الأول يحكي فيها الجبرتي مدوناته، فيحكي فيه كيف كتب كتابه الكبير، ويحكي أحوال الناس في تلك الفترة، وفي خط سردي آخر هو الظلال يحكي فيه حفيد شيخ العرب ما يدور بين قرى الصعيد حيث كانت مملكة شيخ العرب الغابرة وصراعهم مع المماليك. رواية تاريخية منسوجة بعناية واقتدار، وهي الرواية الثالثة لأحمد جاد بعد روايتيه ليالي السيد وأحزان نوح .
(( أعود للمنزل أتذكّر أيام كنّا نذهب إلى ميدان بركة الأزبكية نركب أنا وهو زورقًا وقت فيضان النيل، حيث توقد المصابيح في البيوت، تنعكس أنوارها على الماء، وفي المساء يحلو للناس التجول بالقوارب والزوارق، كان منظرًا خلابًا جميلاً بصحبة صديقي الشيخ العطار، تذكارنا مرة تلك الأيام، وخزنا اشتياقنا إلى زمن الراحة قبل أخذ النفس بالشدة، هو في طريقه نهمًا للعلم، وأنا استهواني التاريخ ومدوناته، أفتقده كلما طالت مدة البعد، لكن أجمل لقاءٍ ما يكون بلا ترتيب ولا إعداد))
.
أذكر أني تعجبت من موضوع مسلسل "شيخ العرب همام" الذي كتبه عبد الرحيم كمال منذ عشر سنوات، وربما لم أتحمس لمشاهدته، ولكن كانت المفاجأة اعتماده على شخصية حقيقية، لم يتم لفت الأنظار إلأيها وتم تجهيلها عمدًا تقريبًا، كما تفعل مؤسسات الدولة عادة ما كل ماهو صعيدي! لكن كتب التاريخ لا تنسى، والجميل الذي فعله أحمد جاد وأتقنه في هذه الرواية أن ضفّر المرويات التاريخية بحكاية إنسانية شديدة الجمال والشفافية مع همام الجد، وما دار بينه وبين أصحابه ومريديه.
طبعًا يبقى أن لدينا تقصير كبير في علاقتنا بتاريخنا، ولعل هذه الرواية تشير وتلفت النظر إلى أمرٍ هام وهو أهمية قراءة تاريخ الجبرتي والتعرف على أحوال مصر والمصريين من خلاله، وطبعًا ليست المرة الأولى التي يتم فيها الرجوع للجبرتي وتاريخه، فقد سبقه إلى ذلك الغيطاني، ولكن في عصر مختلف، أما ما فعله أحمد جاد فكان أن أدخلنا فترة كتابة التجبرتي للتاريخ نفسها، وذلك بالتوازي مع تاريخ شيخ العرب همام، الذي لازالت صفحات التاريخ تكتب عنه وتحكي عن سيرته
(نشر شيخ العرب همام العدالة بين ابناء الصعيد ولم يكن يفرق في المعاملة بين ابناء قبيلته الهوارة وبين الفلاحين او العرب الاخرين فالجميع امامه سواء ... لقد احال شيخ العرب همام الصعيد من منبت للفتن ومسرح للصراع بين الامراء المماليك المهزومين امام زملائهم في القاهرة ومطارديهم المنتصرين الي منطقة استقرار ورخاء وامن وازدهاروبهذا وضع اساس مجده وخلد ذكره)
في النهاية استطاع أحمد جاد الكريم أن يتمثل هذه الفترة، وأن يطوّع لغته إلى هذا المستوى شديد الخصوصية، وأن يجعلنا نتفاعل مع شخصيات الرواية على اختلاف عالمهم واهتماماتهم سواء كان المؤرخ الجبرتي أوهمام الحفيد أو الشخصيات النسائية التي جاء حضورها ليكسب الرواية بريقًا خاصًا سواء فاطمة أوحيونة، كما جعلنا نستشعر خطر المماليك والفرنسيين على السواء، ونحتار حيرة المصريين ونتألم آلامهم، وهو لعمري رهان الرواية الجيدة.