#ريفيوهات
"حين أردت أن أنقذ العالم....عن سطور فدائية"
"أَرَى مِثْلَ سُهْدِي في الكَوَكبِ
أَحَلَّ بِهِ مِثْلُ مَا حَلَّ بِي
بَهِمُ هُيَامِيَ مِنْ وَجْدِهِ
وَيَهْرُبُ مِنْ مَهْدِهِ مَهْرَبِي
وَنَجْتَازُ هَذَا الفَضَاءَ رَحِيباً
فَأَمَّا بِنَا فَهْوَ لَمْ يَرْحُبِ"
تكشف تلك الأبيات التي نظمها "خليل مطران" صفة خاصة بالشعراء -وخاصة أصحاب الاتجاه الوجداني- وهو قدرته على بث مشاعره فيما يشاهده بواقعه. ومن ثم يقوم بتهيئة ذلك الناتج -يقيم بعينيه أيها من مشاعره صار مندمجا مع المشهد المراد، وأيها تنافر معها- وترتيبه بشكل يقبله القارئ. ويتأثر به. ولعل -من رأيي- أقرب المبررات منطقية لإعمال تلك الصفة، هي محاولة لإنقاذ نفسه. بتفريغ ذاته على تلك الصور الطبيعية. وقياسا على معرفته بحركة تلك الصور وفهمه لسرها، يستطيع أن يرى نفسه متناغمة مع المشهد، كأنه يرى الواقع عبر لوح زجاجي. ومن ثم يفهم -ولو بقدر قليل- أحاسيسه وبواعثه العصية على التعبير، وبالتبعية معرفة طبيعة نفسه التي تمكنها براءة الصورة من الانطلاق، وغمر صاحبها بجوانبها المخفية فيشعر بعد المشاهدة كأنه ولد من جديد، وقد تمّلك نظرات ورؤى مختلفة.
ولأن مهمة الشاعر بحسب تعريف الكاتب الأمريكي "جوزيف كامبيل" بكتابه "سبل النعيم" هي رؤية القيمة الحياتية للحقائق، وتأهيلها لنسج صورة تربط الحياة اليومية بالأبدية والخلود، فإنه هنا بفضل رؤيته لحقيقة ذاته، وتحويلها بمساعدة أدواته المستلهمة من الواقع، من شكل ينظر إليه مجملا لغموض تفاصيله، إلى هيئة أشد وضوحا مؤهلة أركانه، والتي أصبحت ذات قيمة عليا نتيجة استناد الشاعر إلى الصورة أكثر من التجربة إلى مزاحمة الخلود، قد أصبح رمزا. يجذب العاجزين عن التعبير عن حيرتهم بين الانصياع للعالم المادي محدود الحركة وبين الذوبان مع الروح وجموحها. كما أنهم يرون فيه خلاصا من اعتبار رؤاهم ووجدانهم مجرد ذنب لابد من طمره
ومنه، جاء ديوان "حين أردت أن أنقذ العالم" للشاعرة جيهان عمر-الصادر عن دار المرايا بعام 2023- متعمقا في التعريف بهذا المخلص، متضحا ذلك في التعريف بالشاعر العجوز بقصيدة "جرة لحفظ البقايا"، بالإضافة لسبب وجوده، وذلك عبر قصائد نثرية، تعرض صورا تجارب وقصص خاصة لأبطالها، متوازيا معها في معظم القصائد شكلا ضبابيا عن المعنى والرمز، تتضح كلما تقدمنا بالديوان، خاصة بقصائد "الأشياء في المنتصف، النصف، والمحبة تدخل المصعد"، إلى أن نصل نهايته، وقد رأيناه يفرض نفسه موافقا العنوان من ناحية شكلية في كون العنوان جملة متضمنة بقصيدة "سيرة ذاتية للبحر" وليس عنوانها كما هو المعتاد، ومن ناحية ضمنية في إظهار القضية الأساسية للديوان.
في قصائد "لا تعد السمكات إلى البحر، قنديل البحر، نهر يتدفق من خلف رأسي، حافلات وثمار، زجاج مصقول، ألف زهرة وقمر، وقبلة خفيفة" تبدأ الشاعرة بمقاربة هادئة بين الذات وحالتها المضطربة وبين بعض العناصر التي تتماس مع مشاعرها في واقعها -كالريح، والبحر، والثمار، والقمر-، مصفية إياها بجهد من التفاصيل المشتتة. لتصير أمامنا نافذة تعرفنا بصورة أدق على النفس، وتركيبها المتماثل في تعقيده مع الطبيعة، لنراها مطوعة حريتها وتحولاتها المستمرة ولعبها على الصفات ونقائضها، في مراوغة الواقع-التي تعد نفسها غريبة عنه كما بقصيدة العاملة- وكسر محدداته ومعانيه المرساة -كما تقول بقصيدة لا تعد السمكات إلى البحر: يتعجب من وجودي...يتعجب من استحالتي-. باحثة في الوقت نفسه عما يكملها. عمن ينجدها من أسر التفكير في انفصالها عما حولها -المشيرة إليه بفراغ العقل في قصيدة "حافلات وثمار"، أو ثقب بوعاء فخاري بقصيدة "زجاج مصقول"، أو حتى بهوى المصادفات في قصيدة "ماراثون"- حتى لو يضطرها ذلك إلى التقيد بشريكها. فهي تجد فيه فرصة أكبر للانغماس في الكون وعناصره، متحملة ثمار الأيام المُرة في رحلتها
بالابتعاد قليلا عما خلف النافذة، نرى "جيهان عمر" تنقلنا بقصائدها "بنت صغيرة بالداخل، النصف، ويخلو من طمأنينة" إلى التركيز على هيكلها وقوامها، لنجد أنها متتابعات اقتبستها الشاعرة من تجارب منسية. حفرت طرقا لنفوس كتب عليها أن تمشي فيها هائمة دون حسم "كرمز الدمية المعلقة بقصيدة "بنت صغيرة بالداخل"، ويدفعها الخوف للسير مفتتا إياها بروية، وفي كل خطوة لا تعرف الذات شكلها كيف صار. فتضطر إلى إكمال المسيرة، عل في ذنبها وتحولاتها المجبرة عليها، ما يجعلها في لحظة تندمج مع طريقها-أي يصير الخلاص بالنسبة لها أمرا مستحوذا على الفكر- فتتخلص من عبئها، متحولة لمجرد بقايا منزوية في جنبات الطريق، وهو ما فصلته الشاعرة بشكل ضمني في شخصية الغريق بقصيدة "سيرة ذاتية للبحر" وظهر -في رأيي -كمرثية لهؤلاء، كما قالت"البحر يكتب سيرته ويفضل الصمت"
ومن خلال هذا التضامن، وعبر أمومة تظهرها الشاعرة في قصيدة "فراشات جدتي" تجاه الأفكار والقضايا، تذوب بالتبعية في هم هؤلاء المتعبين كما تذوب مع الأفكار بقصيدة "أقشر غموضها". فتحاول أن تحذر ذواتهم من السقوط أو تجرهم لمعنى رحلتهم المفقود، صانعة لهم منظور جديد، يكشف لهم أثار التجربة على نفوسهم تارة، ويبصرهم على خطواتهم القادمة تارة أخرى. ومن ذلك، ولأجل قيمة هؤلاء الحالمون الحيارى ذوو النفوس الحرة، ترى الشاعرة إنجادهم، هو محاولة لإنقاذ عالم بأكمله من شبح يزيح لحساب العادة والمصلحة، الروح والمعنى الذي يضيف للدنيا قيمة، تماما كقيمة الشال الحريري في قصيدة "شال حريري يسقط إلى أسفل" لامرأة مذهولة.