#ماراثون_القراءة_مع_بيت_الياسمين
هذا الكتاب هو تجميع لمقالات كتبها برتراند راسل أعظم فيلسوف اجتماعي عرفه العالم في القرن العشرين. والذي قام بعملية تجميع الباقة هو المترجم والمحقق الأستاذ نظمي لوقا (وليس المؤلف). جمعها من كتب الفيلسوف العالمية، ومنشوراته الإذاعية والصحفية. ثم اختار المترجم مقالًا بعنوان: عالمنا المجنون، ليتصدر قائمة المقالات التي وردت في الكتاب.. كما اختار نفس العنوان ليكون عنوانًا للكتاب.
هذه الكيفية أثارت لدي -كقارئ- قدرًا من التحفظ، لم يزايلني حتى بعدما انتهيت من قراءة الكتب، وأدركت مدى القيم الفكرية لموضوعاته.
*****
يتألف الكتاب من حوالي خمسين مقالًا. الأول منهم هو مفتاح الكتاب.. ففيه يضعنا برتراند راسل أمام حقيقة مؤكدة هي: الجنون الذي أصاب عالمنا. بل ويصف لنا بدقة العرض الأساسي لهذا الجنون وهو: إن العالم كله يشعر أنه مندفع بقوة لا سبيل إلى مقاومتها، في طريق مؤدية إلى كوارث دهماء. وهذه الكوارث هي نتاج شهوات الإنسان، والقرارات التي يتخذها.
ثم انتقل بحديثه لمناقشة وتحليل فكرة نشوب حرب عالمية ثالثة كنتيجة للعداء القائم بين القوتين العظيمتين اللتين تسيطرا على العالم، واستخدام الأسلحة الذرية. ويؤكد أنها حرب ليس فيها غالب ومغلوب، بل الكارثة تعم وتطم هذا وذاك.
بينما في مقال آخر يعرض رأيًا له وجاهته، وهو أن وجود القنبلة الهيدروجينية هو عامل من عوامل السلم، ووسيلة للحفاظ على السلام.. وأن هذه القنبلة هي في الواقع أعظم أمل في إبعاد شبح الحرب عن العالم، لأن للخوف سلطة على عقول البشر لا تعادلها سلطة على الإطلاق.
وانطلاقًا من كل هذه المخاوف التي أثارها، واستعرض تفصيلاتها، فهو يبعث برسالة نداء مطولة إلى الرئيسين أيزنهاور وخروشتشيف، يدعوهما أن يلتقيا للمناقشة الصريحة حول إيجاد وسائل للتخفيف من عدائهما الحالي، وحول الشروط اللازمة للتعايش السلمي.. ومناقشة وضع حد لانتشار الأسلحة الذرية...
وكذلك ضمًن رسالته مجموعة من التنبيهات منها: إن سيادة الخوف من الحرب العالمية، وتسلط هذا الخوف على السياسة، إنما يشكل خطرًا عظيما على البشرية جمعاء... لأن هذا الخوف هو السبب الرئيس في تحويل الاعتمادات المالية والجهود البشرية إلى سبل التدمير.
ومن أهم التنبيهات أيضًا: إن الرغبة في رفع مستوي التفوق في أدوات الموت، يعني تأخر التعليم وإعاقته..
*****
حقيقة أكثر ما أعجبني وأمتعني في هذا الكتاب هو أسلوب برتراند رسل في تفكيك وتحليل المسائل والقضايا التي يتناولها. هذا الأسلوب يبسط الحقيقة أمام القارئ، ويساعده على الاستيعاب وأيضًا على تكوين مفاهيم صحيحة ودقيقة عن الموضوعات التي يقرأها. فعلى سبيل المثال في تحليله لمشكلة "التعصب"، فهو يفككها حتي يصل إلى جذورها، وتتمثل في اختلاف العقيدة الاجتماعية أو الدينية.. ويضرب أمثلة عديدة لذلك.. ثم يبين كيف تصبح العصبية أهم أسباب النزاع والحروب في العالم.. ثم يطرح الوسائل الضرورية لعلاج هذا التعصب الذميم..
مثال آخر لمست فيه نفس الأسلوب عندما تحدث عن "لعنة المال". فيبين للقارئ أن هذه اللعنة تبدأ بالرجل العصري، إذ هدفه من المال، هو مزيد من المال.. إذن مال يصنع مالًا بغير توقف.. وتحتدم المنافسة على المال.. وهذا بدوره يخلق مشاكل القلق في طبقات المجتمع، القلق من فقدان أي من المكتسبات أو المراتب التي حققها للفرد المال، وبالطبع القلق أيضًا من الهبوط من طبقة إلى طبقة أدني...وهكذا يسود المجتمع مقياس واحد أن المال هو ميزان كل شيء. ويواصل شرحه فيبين أن هذا التفكير التنافسي؛أي تركيز الاهتمام في الحياة بالتنافس المالي، يؤدي إلى طغيان ذلك التفكير على مجالات لا تمت إلى المال بصلة. ويمثل هنا بمجال القراءة، فطغيان هذا التفكير يؤدي إلى الهبوط بالقيم الفكرية والثقافية والأدبية في مختلف المواد المقروءة ووسائطها إلى مستويات السطحية بل وأدني.. وهذا بدوره يؤدي إلى الانحطاط الذهني والثقافي لدى أفراد المجتمع.
*****
كتاب ممتع ومهم، يستحق القراءة وما بعد القراءة من تفكر ومناقشة وتقليب للأفكار ووجهات النظر. وكذلك يشجع على قراءة المزيد من كتب الفيلسوف العظيم برتراند راسل.