فبراير 2021
هناك روايات تبدأ معها بدوافع مختلفة، فالعنوان مثلاً ليس جاذبًا ولا لوحة الغلاف، ولكن مطلع الرواية مثلاً الذي يقول: "نقف هنا على بنيان يوشك أن يتهاوى في أي فصلٍ من الفصول التالية" وخلال ثمانية عشر فصلاً هم أقسام هذه الرواية، نطلّع على تشكّل هذا البنيان/ العالم وتهاويه، ولكن ذلك لا يتم بشكل مفاجئ، بل يسير على عدد من المحاور بين شخصيات الرواية ماضيها وحاضرها من جهة، ثم في مايمكن اعتباره الجزء الثاني من الرواية حيث عالم المستقبل (مدينة نيوم) وما يحدث فيها هناك حيث يبدو البنيان كاملاً مثاليًا ولكنه لا يلبث أن يتهاوى مرة أخرى!
هل كشفت لك جزءًا من أسرار هذه اللعبة/ الرواية؟!
لعل أجمل ما في هذه الرواية هو أنها خارج سياق كل التوقعات، وفي ظني أنه مهما تحدث عنها القراء (الذين لا أعرف أين هم في الحقيقة) فإنها لن تفقد متعتها ومفاجئتها لكل قارئٍ على حدة، لا شيء يمكن أن نكشفه للقارئ خارج دهاليز هذا العمل وتلافيفه وتفاصيله، فالرواية بالفعل ثرية، سواء بالشخصيات المرسومة بإحكام، وطريقة تقديمها للقارئ بها، بما يحعله يتعاطف مع بعضهم ويكره أو يصب جام غضبه على أخرى، أو يفكّر في شخصيات واقعية يعرفها تشبه هذه الشخصيات، وعلاقتها بالثورة والمظاهرات والمبادئ والقيم "والكلام الكبير"، وكيف أن كل ذلك يتحوّل بين عشية وضحاها لمصلحة هنا أو هناك!
طبعًا المشكلة التي ستواجه كل قارئ محافظ في هذه الرواية معروفة، ولسنا في حاجة للإشارة إلا أن الرواية (+18) وأنها لا يُنصح بها لمن يخافون على أنفسهم من خدش الحياء العام، ولكن أيضًا يجب أن أشير إلى أن بعض المشاهد والمواقف التي تم تصويرها بدقة في الرواية جاءت مناسبة جدًا للشخصيات أو كرد فعل مهم جدًا يجب أن يتم تصويره على هذا النحو لفهم دوافع الشخصيات وطريقتها في المواجهة، وهو ما فعلته فرح مع أحمد مثلاً.
فرح ونسيم وأحمد ثلاث أصدقاء من بيئات وطبقات اجتماعية مختلفة، جمعت بينهم القاهرة، باختلافها واضطرابها وفوضاها، جمعت بينهم الثورة أيضًا والأحلام والطموحات، جمع بينهم أيضًا الحب، ذلك البريق الخاطف الغامض، الذي جمع أحمد بفرح أولاً، ثم إذا بصديقه نسيم يتوّرط في تلك العلاقة الشائكة، ولكن أحمد لا يفي بحبه لزوجته، و تزغلل عينه مي، فتذهب فرح لنسيم ليخوضا معًا تجربتهما المفاجئة والمدهشة والجميلة ..
ولكن الرواية يا سادة ليست عن علاقات الحب المعقدة، ولا عن الخيانة الزوجية، ولا عن أثر الصداقة في بناء الأسر والمجتمعات الصالحة، وليست كذلك عن الثورة وهزيمتها، ولا عن أفكار المستقبل الواعدة، بل والواعدة جدًا، إنها تدور حول ذلك كله، و"تلعب" به إذا جاز لنا التعبير، يرسم أحمد ناجي شخصياته بذكاء وهدوء، ويعرفنا عليهم تدريجيًا، ثم يتركهم لنا ويتركنا معهم في خضم التجربة
((بعد هزائم متتالية وقرون من التنكيل بالنساء، انتصرت البيولوجيا ومستقبل الانتخاب الطبيعي، لم يعد التطور بحاجة إلى جينات الذكور، وعمليات التلقيح والتولد الذاتي أصبحت الإجراء المناسب. تم هذا ببطء شديد وصراعات ضد خرافات الدين والأخلاق، تحت البيروقراطية التافهة لمنظمة الصحة العالمية. بدأ الأمر بتلقيح الأطفال عند الولادة بمضادات الفيروسات والأمراض المختلفة، ثم إطعام الأم كميات مختلفة من الفيتامينات والمقويات في أثناء الحمل، ثم تطعيم الأجنّة بالبروتينات والأحماض الجينية لتفادي أي أمراض وراثية ... والاعتماد على تصنيع الأطفال معمليًا بالكامل لإنتاج ورثة مناسبين لتولي الملك وتنميته))
فرح أولاً وثانيًا وأخيرًا شخصية مرسومة بدقة وجمال وعناية، حمّلها الكاتب كل أفكار الثورة والتحرر والأمل، ثم كيف تم إجهاضها ووأدها وتشتيتها، لكن ثمة رحلة في الرواية، يجب ألا ننساها، رحلة إلى المستقبل يا سادة، المستقبل الواعد جدًا، حيث الأشياء كلها تحت سيطرة العلم والتكنولوجيا، نعم، نعم، إنها مدينة "نيوم"، التي تجمع للمفارقة بين الأصالة والمعاصرة، بين التقاليد العربية والعلم الحديث، والحقيقة أن هذا الجزء من الرواية، ومع تصاعد نغمة "غرباء" بين جنباته كان الأكثر سخرية وطرافة ومفاجئة في الوقت نفسه.
الحقيقة أن كلامًا كثيرًا يمكن يقال حول هذه الرواية، حول كل فصلٍ من فصولها، حول كل شخصية من شخصياتها، نسيم والساحر مجدي، وأحمد الذي ذاق ويلات وبهدلة ما بعدها بهدلة، وماما كريمة، وغيرهم
كنت أود أيضًا أن أنقل مقاطع عديدة من الرواية، خاصة تلك المقاطع التي تصف أحلام الشخصيات وأفكارها من بعيد، بطريقة الرواي الذي ينتقم من شخصياته لا يصف ما يمرون به فحسب، كنت أيضًا أود أن أتحدث عن المقاطع الساخرة التي أضحكتني، وهي كثيرة، وعن الحضور المتميز لعلي عبد الله صالح وأبو مازن ونشيد غرباء 😃
ولكن كما تعلمون العمر قصير، والقراءات كثيرة، اقرؤوا هذه الرواية واستمتعوا بها فقط، بالمناسبة، إن لم تستمتعوا من الصفحات الأولى فاتركوها فورًا، واذهبوا إلى قراءات أخرى.
بالمناسبة أيضًا ياريت أي حد يلاقي قراءة لهذه الرواية يخبرني بها، لإني أحب أن أقرا كل ما كتب عنها، حتى لو كان نقد سلبي