الرق : هو حرمان الشخص من حريته الطبيعية وصيرورته ملكاً للغير .
وعروجاً على تأصيل كل شيء ومعرفة كنهه وأصل منشأه، ذَكَر الكاتب :
[[ والذي أوجبَ حصول هذا الفعل هو أمرٌ يسهل بسطهُ وإيراده، وذلك أنَّه لما كان العملُ من أصعبِ الضرورات وأشقاها أخذ الإنسانُ في البحثِ عمّا يخلّصه من عنائهِ ومكابدته، فإذا بطلبته بين يديه عند الهيئة الاجتماعية، فإن القوي ألزم الضعيف بالاشتغال، ومن ذلك نشأ الاسترقاق! ]]
كتاب فاحم مانع ماتع كتبه المؤلف أحمد شفيق بك -سكرتير ناظر وزير الخارجية آنذاك - في القرن التاسع عشر رداً على ادّعاء الكاردينال الفرنسي لافيجري بأن شريعة الاسلام تعامل الأرقاء بشكل سيء وتنزلهم منزلة الحيوانات أو هم أقل!
فجاء هذا الكتاب الذي يعتبر مرجعاً لكل باحث عن أصل الاسترقاق.. أصوله ومنشأه ، ولولا أهميته لما عاش ماينيف عن قرنٍَ وثلاثة عقود من الزمان ، منذ طبعته الأولى للعام 1892م وصدرت منه طبعة ثانية في حياة المؤلف والمترجم .. وبقي في حِرزه حتى أعيدت طباعته مجدداً في عصرنا الحالي .. وجدير بالذكر أنه قد كتب بالفرنسية وترجم لعدة لغات .
الكتاب مُقسّم لستة فصول مع مقدمة الكاتب، والمترجم أحمد زكي بيك مترجم مجلس النظار .
اشتمل الفصل الاول على عدة فروع تضمنت نُبَذاً عن: ( الاسترقاق عند قدماء المصريين - الهنود - الآشوريين والأمم الإيرانية -الصينيين - العبرانيين- الإغريق -الرومان)
والغرض من التقسيم هو التأصيل المرجعي لأصل الاسترقاق عند الأمم وصولاً لإقامة الحجة ورصد الدليل على أن القرآن الكريم والشريعة الاسلامية أوردت الكثير من النصوص التي تفرض على المسلمين إحسان رعايتهم وأن تكون معاملتهم بالحسنى والمرحمة، وهو مايدحض قول الكاردينال لافيجري الذي يزعم أن انتشار الرقيق في أفريقيا الوسطى راجع لاتساع رقعته في البلاد الإسلامية
وأن ديننا القويم يساعد على اصطياد الرقيق، وأن الإسلاميين يعتقدون ويقولون بأن الزنوج ليسوا من الإنسان، بل إن مقامهم أدنى من مقام الحيوان. !!
ولم يكتفِ لافيجري بإدانة المتدينين بالدين المحمدي بهذا الأمر، بل نسب قبائحه إلى نصوص الشريعة التي جاء بها النبي ، لذلك انبرى حلفاء الدين للرد عليه وتبيان الحق وكان للكاتب أحمد شفيق الفوز بقصب السبق .
إذا تطرقنا للحديث عن مصر القديمة فقد كانوا آلةً للعمل ومظهر من مظاهر الغنى والثراء ، وأهم أسباب كثرتهم هي الفاقة التي جعلت لامتلاكهم سبيلاً يسيراً، فضلاً عن أسارى الحرب الذين تمتلكهم الدولة و يقومون بشؤونها.
أما في الهند فقد قُسّموا خوادمَ و أرقّاء (دارا) ، والأعمال النجسة تكون من نصيب الأرقاء!
وهكذا يتوالى التقسيم دواليك حتى نصلَ للدولة الرومانية والإغريقية حيث يتعاظم الغُبن لتلكم الفئة، فكانوا الموالي يُسيئون إليهم غاية الإساءة و يعاقبونهم بالكيّ والحرق ومقاتلة الوحوش! والحراثة مقيدين بالأغلال والسلاسل حتى يصلوا لإعدامهم الحياة ، ولولا أن ترفقت بهم بعض التشريعات القضائية - فجعلت من يقتل عبداً مرتكبٌ لجنايةِ القتل،- لصار التمثيل بهم أمراً وارداً ورود الماء.
جاءت الفصول التالية من الكتاب مقسمة بين الاسترقاق في الأزمان القديمة والعصور الوسطى والأزمان الحديثة وقُسم كلٌ منها أيضاً لفروع تبعاً لأسماء البلدان القديمة في تلكم العصور، وتمت الإشارة إلى تصنيف و أساليب استخدام الارقاق بحسب التطور والاحتياج وكذلك تباين القوانين المفروضة حينذاك عليهم وقابلية العتق من عدمه والعقوبات على من خالفها ، ناهيك عن العقوبة التي تطال الأحرار إذا أعلوا من شأن العبيد بزواجهم او تزويجهم بالأحرار.. فمثلاً عند الافرنج تضمن الكلام عن الاسترقاق في العصور الوسطى [[ «إذا تزوج أحد الأهالي برقيقة أجنبية وقع في الرق والاستعباد، وكذلك المرأة الحرة التي تتزوج برقيق تفقد حريتها وينالها هذا العقاب! ]] بينما هو أشد عند البوزيقيون كنا ورد ضمن البحث:
[[ الفرع الرابع: الاسترقاق عند الويزيقوط
قوانين النكاح عند هذه الأمة أبلغ في الشدة مما هي عند التي قبلها؛ فقد تدَّون بها «أن المرأة الحرة إذا تزوجت برقيقها كانت عقوبتها أن تحرق هي وإياه وهما على قيد الحياة !!» ]]
ثم تطرق الكاتب في الفصلين ماقبل الأُخارى للاسترقاق في الأديان بحسب الترتيب:
النصرانية ثم الإسلام ولك أن تتخيل أيها القارئ الكريم عمق الفجوة بين نظرة كلا الديانتين للاسترقاق، أوجِزُها فيما يتعلق بالدين المسيحي في هذا الاقتباس: [[ قال بايي بصحة الاسترقاق معتمدًا على ما ورد في الإصحاح الحادي عشر من سفر الخروج، والإصحاح الخامس عشر من سفر الأحبار، وعلى تعريفات مختلفة جاءت في قوانين الكنائس، وقال: إن الإنسان لا يجوز له أن يبيع نفسه، وأن الحرب يترتب عليها حق استعباد العدو واسترقاقه، وفي أيامنا هذه قد أقر نيافة بوفييه أسقف اُلُمان على الاسترقاق في (فتاواه اللاهوتية) المتخذة أساسًا للتعليم في الأديرة، بل إنه اعتبر فوق ذلك أن النخاسة تجارة محللة، وقد نحا هذا النحو أيضًا جناب الأب ليون في كتابه (العدل والحق). ]]
*العبارة التي وردت بأن الإنسان لايجوز له ان يبيع نفسه مفادها انه في بعض الأزمنة اضطرت شدة الفاقة بعض الأسر لان يبيعوا انفسهم او أبناءهم !.
ثم نأتي للديانة الإسلامية وهي،أساس البحث (كان الكتاب في الأصل عبارة عن أوراق بحثية عرضها تباعاً على الجمعية الجغرافية الخديوية في جلسات متوالية)
وكان تفصيله أكثر من رائع وجاء في غاية الإحكام وقد بيّن في مبدأ رسالته أن طبيعة الإقليم كان لها دور في اتساع رقعة الاسترقاق بالمشرق وكيف كانت تجارة الرقيق قائمة بالفعل في الجاهلية ثم جاء الإسلام ونظم هذا الأمر تنظيماً حكيماً ومتدرجاً فعمل على إنضاب منبعه،وتقليل أثره من الوجود، وحصره في حدود ضيقة على وجهٍ يخالفُ تمامًا ما كان عليه في تلك الأيام.
وذكر ان المنبع الوحيد للاسترقاق هو الحرب الشرعية بين المسلمين والكفار كما أنه يمكن دفع الفدية لافتداء الأسرى او المنّ باطلاقهم أحراراً دون شروط ((وإذَا لقِيتُم الّذين كَفروا فضَرْبَ الرِقاب حتَّى إذا أثْخَنُْموهم فَشِدّوا الوثاق فإمَّا منـًّاً بعْدُ وإمّا فِدَاء)) سورة محمد- الآية 4
وساوى بين العباد أبيضهم وأسودهم وسيدهم وخادمهم في الحقوق والواجبات الدينية تؤكدها الأحاديث الصحيحة والآيات المحكمة.. فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في آخر مرضه ((الصلاة الصلاة وماملكت أيمانكم))
ثم ذكر في كثير من الآيات فضل إعتاق الرقاب، وشروط معاملة الرقيق والنهي عن الإساءة لهم
وتحميلهم مالايطيقون وان هذا يوجب عتقهم ، كما أنه يجوز الزواج منهم [[ وللسيد أن يتزوج بأمته بعد أن يعتقها، ويعطيها مهرًا، وفي هذه الحالة ترثه هي وأولادها، فإذا أبت المعتوقة نكاحه فليس له أن يعيدها تحت سلطته، أو أن يلزمها بنكاح ]]
والكثير من التفصيل الذي يوضّح الصورة كاملة ويُزيل الغشاوة عن هذا الأمر حتى تمَّ إلغاء الاستعباد تماماً من دول المشرق وآخرها السودان.
الفصل الأخير جاء على تبيان:
الكلام عن الرقّ في مصر من حيث العُرف والأخلاق وإنه لمقالٌ جميل فيه من التفصيل مايطلعنا علي تاريخ مصر الحديثة ذاتها (القرن الثامن عشر والتاسع عشر) في تلك الحقبة ومنهم المماليك (العبيد البيض) الذين تم اقتناؤهم بعناية وتعليمهم وتأديبهم وتدريبهم حتى كان منهم ملوك وسلاطين ومحظيين ، و زوجاتهم أمهات أمراء ، فضلاً عن رقة طبائع هذا الشعب الذي يرى في العبد مسكيناً بلا عائلة فيقوم بمؤونته ويعطيه مصروفاً ويعتبره يتيماً فيحسبه فرداً من أفراد عائلته ومنهم من يتم تبنّيهم ، ويعتقونهم كإيفاء لنذرٍ ويزوجون الإماء بأبنائهم ويمهرونهم نقداً ، وكذلك يعتقونهم بعد خدمتهم لهم عدداً معيناً من السنين إطاعة لعقيدتهم الإسلامية
كما لا يُغفل دور مصر حين أبرمت انجلترا معاهدة مع دول أوروبا وآسيا وأمريكا وأفريقيا لإبْطال الاسترقاق والتي شاركت فيها مصر في 4 اغسطس سنة1877والتي من مقتضاها ان الاسترقاق والنخاسة ملغيان في جميع أنحاء القطر المصري ومن جملتها السودان.
ولم تكتف بذلك بل وضعت أقلاماً في جميع الأقاليم لعتق من يطلب ذلك منها من الأرقاء.
حدث ذلك في عهد الخديوي عباس حلمي آخر خديوات مصر والسودان (لم يأتِ ذكرُه على وجه التحديد ولكني استنتجتُ ذلك من تاريخ كتابةِ الكتاب وطبعتهِ الأولى وبحثتُ عن اسم الخديوي الحاكم في تلك الحِقبة)
وللمصادفة جاءت قراءتي لهذا الكتاب تزامناً مع مشاهدتي للفيلم التاريخي اميستاد Amistad والذي يدور حول تمرد مجموعة من العبيد على سادتهم واستيلائهم علي السفينة أميستاد العابرة بهم نحو شمال شرق اميركا على إثر الفظائع التي لاقوها ثم تمت السيطرة عليهم ثم سوقوا للمحاكمة .. وبين اتفاقيات ومعاهدات تطالب بملكيتهم و قلة تنادي بالحرية لهم وتحاول إقناع المحكمة بذلك وأنهم في الأصل كانوا احراراً .. تدور الأحداث وتروي الفظائع!
الحقيقة أني وجدت هذا المبحث من القيمة بحيث يـنصح بقراءته، وضمّهِ للمكتبات.
وأما عن لغته الانشائية وأساليبه القولية الرفيعة التي تذكرك بالقيّم من كتابات السلف ، مما يُفتَقد آنياً .. زِد على ذلك الملحقات التي أخذت من الكتاب ربعه تقريباً وهو بمثابة خلاصة ما ورد الكاتب من تعليقات على بحثه، ومراجعات ونقد ومقترحات قام بالرد على بعضها خصوصاً فيما جاء من موقف الديانة النصرانية من الرق مما يجعل لها قيمة كذلك من الوجهة التاريخية
طبعاً مع ذكر ماهيات المدعووين تفصيلاً في،الحواشي ولا نغفل أنه ذكر المراجع والاصول وأمهات الكتب المنقول منها لتكون ذات مرجعية متينة لا تقبل الشك بل وشرح في متن الحواشي الكثير عن معظم الشخصيات ومعاني الكلمات التي قد يستشكل فهمها
واختتم بهذا الاقتباس كنبذة عن لافيجري نفسه لتعرفوا أن بعض الأعداء تُخفي وجاهتُهم أغراضَهم الدنيئة …
[[وأنه متحصل على رتبة الدكتورية في اللاهوت والطب والحقوق والعلوم والفلسفة، وإذا خطب خلب الألباب وتملَّك العقول ولعب بالأفكار كيفما شاء، وفي وجهه سماحة وبشاشة تغران الإنسان ولا تخبرانه بما انطوى عليه من سوء المقاصد ورذيل السجايا، والحق أنه تاجر لا خادم للديانة، وإذا عاداه أحد أشهر عليه الحرب العوان، وواصل عليه الطعان حتى لا يكون له مخلص منه ولا مناص.]]
رحم الله أقلاماً كانت مِنبراً ووِقاءً وانبرت ذَوداً عن الحقائق وردعاً لمن شطّوا عن الحقيقة وجنحوا للإعتداء بدلاً من الاعتدال، واستغلوا مفوّهيتّهم في تسميم العقول وتأليب القلوب بالباطل فكان لهم بالمرصاد حلفاء الدين وقادته في شتى الصفوف والميادين ، فرسخوا الحقائق وحازوا بذلك الفضل والفخار .