كلما تذكّرتُ موقفي وقتذاك، أحاول أن أهون على نفسي: "كنتَ مراهقًا وللتو بلغتَ السادسة عشرة، وكل ما تعرفه عن ذلك البلد شتاتُ أخبار، فلا مشكلة إذًا أن تميل ميلًا قليلًا إلى (تلك العصبة التي خرجت تدك قلاع أمريكا في عقر دارها)، أليست هي الداعم الأكبر للاحتلال الإسرائيلي؟ فلتذق إذًا ما نذوقه جراء سياساتها" هذه كانت ردة فعلي الأولى على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، خاصة أنها وقعت بعد عامٍ بالضبط من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، وكانت مشاعرنا القومية وقتها في أوْجها.. ثم دار الزمان دورته.
فرّت طالبان ثم كرّت، وها هي تدخل كابول منتصرة للمرة الثانية، وتصعد إلى سدة الحكم لتعيدَ سيرتَها الأولى، لكنني أنا الذي لم أعد كما كنت؛ فذاك المراهق غريب عني، وأفكاره أبعد، وهمومه أثقل.
لم أعد أعبأ بالشعارات الشعبوية؛ دينية كانت أم قومية، الآن أنظر إلى جبال أفغانستان ووديانها ولا أحمل همًّا تجاه أحد إلا الضعفاء البسطاء الذين لا يجدون ما ينفقون، ويسألون منظمات الإغاثة إلحافًا.
ربما كانت مشاهدة فيلم "عداء الطائرة الورقية" محاولتي الأولى لنظرة مغايرة إلى ذلك البلد بعيدًا عن السياسة وتوازناتها، لكنه لم يكن كافيًا بالطبع لسبر أغوار هذا الموضع من الأرض، لذا كان كتاب "من طالبان إلى طالبان-مشاهدات عامل إغاثة في أفغانستان" هو العين التي أريد أن أرى بها، عينٌ لا تنشغل بشيء سوى الإنسان وحقه في حياة هادئة آمنة.
بلغة قصصية رشيقة يقدم الأستاذ خالد منصور شهادة ميدانية عن بلد تجمعت فيه كل الموبقات؛ فساد جاوز العظم في النخبة الحاكمة، وهيمنة لجماعات دينية تحمل نسخة شديدة الرجعية، وفوقهما جغرافيا قاسية وثالثة الأثافي احتلال من جميع القوى الإمبريالية على التوالي، ثم تُرك شعبه على قارعة الطريق يواجه مصيره منفردًا.
يأسرك الكتابُ من إهدائه، قبل أن يلقي بك إلى أهوال المشاهدات الحية التي يحملها خط جغرافي أراده الكاتب حاملا لفصول الكتاب يبدأ من كابول ثم تتسع الرقعة إلى الكُور والأرياف ثم تتسع أكثر إلى دول الجوار المؤثرة في السياسة الأفغانية، وقد ضفّر الكاتب كل ذلك بجرعة تاريخية جيدة تكفي على الأقل لإزالة بعض الغموض عن المنطقة.
«.. المنازل، الشوارع، المقاهي، المطاعم، المحال، وحتى البشر. بؤس وفقر ويأس يتخلل المكان، تاركًا بصمات واضحة على الحجر والبشر والشوارع.. مدينة بلا كهرباء لا تصير مثل الصحراء يحلو فيها التطلع إلى النجوم، بل تصبح مستباحة للخوف والمجهول في كل شارع وعند كل منعطف».
واحدة من أزمات الخطاب الديني هي الاستناد إلى عادات وتقاليد المجتمع ثم إلصاقها بالشرع ومن ثم اعتبار من يخالفها مخالفًا للشرع وربما «كافرًا».
وطالبان كغيرها من الجماعات الدينية في هذا «لم يخترع طالبان البوركا فقد كانت أغلبية النساء في أفغانستان وخاصة في الحزام الباشتوني ولا سيما خارج المدن مجبرات على ارتدائها، ولكن طالبان حولوا ممارسة اجتماعية يمكن للمرء أن يتفق ويختلف معها أو يعدلها إلى قانون يسري على كل نساء البلد ويتم جلد من تخالفه».
«كابول الآن رهينة.. كنا أفضل قبل أن يسيطر طالبان على هذه المدينة. نعم كانت هناك حرب قاسية طوال أكثر من ست سنوات. نعم كانت هناك صواريخ تنهمر يوميًّا من كل الاتجاهات ولكننا كنا أحرارًا».
«وحكى لي حميد قصة ابنته الصغيرة التي كانت في طريقها إلى المدرسة ذات صباح ورأسها مغطى بمنديل. اعترض طالبان طريقها وضربوها بسوط جلدي سميك على وجهها عقابًا لها عدم ارتداء الشادور فانخلع فكها».
«وتلقى الدب الروسي ضربات دامية من المجاهدين المدعومين بمليارات الدولارات الأمريكية والريالات السعودية والأجساد المصرية والتونسية والجزائرية، ولكن بعد انتصار وفرح وجيز اكتمل تفكك الدولة الأفغانية الحديثة الضعيفة وعادت البلاد سياسيًّا بحق إلى مكوناتها القبلية والعشائرية والعرقية والدينية الأكثر أصالة من الانتماءات المدنية والحزبية والإسلاموية الهشة».
لم يكن هروب الرئيس بهذه السرعة، وانهيار أجهزة الحكم بهذه الطريقة، هما السؤالان الملحان علي، بل كان عودة طالبان بهذه السهولة ووجود حاضنة اجتماعية محلية لها رغم تجربة الأفغان المريرة معهم، إذًا قد دفع الأفغانَ إلى ذلك ما هو أمرُّ!
«ورغم أن طالبان والقاعدة تسببوا في قتل مدنيين أكثر فإن تعاطف الأفغان وخاصة الباشتون تزايد مع المتمردين أو صاروا أكثر خضوعًا لهم وتعاونًا معهم لأنهم وفروا لهم ما لم تستطع القوات الأجنبية توفيره من حماية ودعم اقتصادي. وبالتالي كافأهم بتوفير الحماية التي يوفرها الماء للسمك السابح فيه».