أزهار الموت، العمل الثاني الذي أقرأه لفايز غازي بعد روايته المرهفة "مناي".
كنت قد ذكرت في مراجعتي عن رواية فايز "مناي" بأن فايز في عمله الأول رسم معالم هويته ككاتب والتي ستدلّنا على أعماله؛ حيث سيكون حضوره وبصمته واضحاً ولا مجال للبس فيه، ولم يخب ظني.. فقد أرسى فايز لاسمه وهويته ككاتب دعائم راسخة، وستكون منارة لأعماله المستقبلية.. وهذا ما لمسته في عمله " أزهار الموت".
سأبدأ الحديث عن لغة الرواية. لغة فايز متماسكة وأنيقة، وهذا ما كانت عليه اللغة أيضاً في عمله السابق "مناي"، لكن بفارق أن اللغة جاءت في أزهار الموت أكثر أناقة وأكثر تماسكاً.. خلال قراءتي للعمل، كنت مأخوذة بعذوبة اللغة وشاعريتها، قوة الألفاظ والوصف، والانسياب الجميل للسرد. كانت الحبكة متماسكة جداً وقد أعطى الكاتب لكل جزئية وخيط حقه في العمل دون تجاوز أو انتقاص.
كما تميز العمل بالتنوع والتنقل الأنيق في زمن السرد. كنت أقرأ العمل مستلذةً بإيقاع السرد حيث كانت له موسيقى جميلة والتي زرعت بداخلي الرغبة لأن يطول العمل، ليطول استمتاعي به.. لشدة سلاستها، تُقرأ هذه الرواية في جلسة واحدة لكني لم أرد لهذا العمل أن ينتهي..
فيما يتعلق بثيمة العمل وفكرته، جاء قلم فايز في هذا العمل حاداً كنصل السيف، كما أن الرمزية في العمل حضرت أيضاً من خلال:
1- تعرض الكاتب في عمله هذا للحديث عن الفساد الذي يسود المجتمعات "وفِي هذا العمل كان مقاطعة في عربستان" كما أسماها، حيث الفساد يتربع على سدة الحكم بأوجهه المختلفة في المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع شعب راضخ للذل والهيمنة، وتفوح منه رائحة الخوف؛ تلك التي تكبله وتقعده عن الدأب والسعي نحو التغيير، فيرتضي ذله ويستشري الفساد.
2- كما وتعرض فايز للعلاقة التي تربط الفاسدين من السياسيين برجال الدين؛ حيث يستمد السياسي شرعية أفعاله من علاقاته برجال الدين الذين يحللون هذه الأفعال، مقابل السلطة التي يمنحها السياسي لرجل الدين الفاسد والذي يجعل من الدين غطاء لممارساته ونزواته.. وهذه الظاهرة ليست بالحديثة، لطالما كانت تلك العلاقة حاضرة عبر التاريخ والتي تفسر كثيراً من الظواهر قديماً وفِي الوقت الحالي.
3- يمكننا أن نلمس المشاعر التي لدى الكاتب تجاه الحكم العثماني للمنطقة. كان فايز قد ذكر ذلك في روايته "مناي" حينما تطرق بالوصف لهذا الاحتلال على أساس أنه من أشرس الاحتلالات التي تعرض لها الوطن العربي وكيف أثر هذا الاحتلال على بنية المجتمع من كافة النواحي. في أزهار الموت، يستخدم الكاتب الألقاب: الباشوات والآغوات كرموز للفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ وهو ما كانت عليه هذه الشخصيات من فساد في فترة الحكم العثماني للوطن العربي. في أزهار الموت، يقتص فايز من هذه الرموز بالنهايات القاسية التي وضعها لها. كانت نهايات حادة وقاسية بذكاء.
فيما يتعلق بعنصر المفاجأة، فقد كان حاضراً وأضاف للعمل عنصر التشويق.. (فيما يتعلق بفارس بطل العمل). ولا أقصد هنا نهايته التي وضعها له فايز ، إنما علاقته بفؤاد باشا والحقيقة التي تكشفت له (والتي لا أود ذكرها هنا حتى لا أفسدها على من لم يقرأ العمل بعد). علي القول أنني لم أتوقعها، وكانت فعلا مفاجئة وصادمة. إضافة لدور "شخصية جواد آغا" والتي اكتملت خيوط الحبكة عند دورها في العمل. وهذه نقطة وجانب يُحسب للكاتب عندما يكون العمل بهذه القوة في الحبكة والمراوغة ربما في صياغة الأحداث بحيث يفاجىء القارىء ولا تكون النهايات أو تفاصيل العمل متوقعة أو أنها قابلة للتنبؤ من قبل القارىء.
أما فيما يتعلق بالغلاف للكتاب، فقد جاء متناسقاً مع طبيعة العمل وتفاصيله؛ فقد جاء التدرج بين الأسود والرمادي للأزهار منسجماً مع محتوى العمل.. تلك الأزهار التي يُسرق رحيقها عندما تنمو على قبور من يسرقهم الموت منا، لتكون رماديتها رمزاً للحزن الذي يسكن قلوبنا.
كنتُ متشوقةً للعمل التالي لفايز بعد "مناي"، وكنت على ثقة بأنه سيكون أنيقًا وجميلاً، ولم يخب ظني!