لعبة الظلال…
فقهاء الظلام
" للموت رائحة الزجاج"*.. لم أنفك أردد هذه العبارة وأنا أقرأ صفحات رواية ( فقهاء الظلام) لسليم بركات.
للموت رائحة الزجاج ، مبثوثاً في ثنايا النص الروائي ، لتدع القارئ يساءل نفسه: ما الذي يجعل من الأدب أدباً؟
حين بدأت دراسة الصحافة والإعلام واجهتني تلك الصعوبة التي تصاحب قراء و كتّاب الأدب! فلغة الصحافة : لغة بيضاء، محايدة( غضوا الطرف عن مصداقية وجود الحياد من الأساس) ، لغة لا تحتمل التأويل أو التفسير، مباشرة، كل ما عليها هو أن تؤدي المعنى بأقصى درجات الإيجاز و التكثيف و الموضوعية ، بعيداً عن الزخرفة اللفظية أو الاستعارات و المجاز.
وأنا ابنة الكلمة وانزيحاتها! تأسرني الكلمات حين تتلاعب بي، وتضل طريقها عن جادة مباشرية المعنى!
بدأت دراستي وأنا أرقب كل تقرير أكتبه: هل مارست فيه تلك الافعوانيات اللغوية؟ هل طرقت باب العاطفة بكلمة أو جملة تشي بانفعال ما؟
كنت أقضي الساعات وأنا أحرر النصوص الصحافية، وأتأمل رفوف مكتبتي وما حوته من أعمال أدبية.. ماذا فعلت بنا أيها الأدب!
هناك شوق جارف يعتريني كلما خاصمت الأدب إذ يخرج الضعف الكامن في ذاتي لجمال اللغة و الفكر، كلما اتهمت الأدب بأنه جعلني إنسانة تعيش على شفير الانفعال و التفلسف، أجدني أشد ولهاً به!
فما الذي أبتغيه حقاً من قراءة الأدب؟ ولماذا أطلّ هذا السؤال برأسه وأنا أقرأ رواية ( فقهاء الظلام)؟
للأدب تلك القدرة على انتشالك من دوامة عاديّة اللغة اليومية الوظائفية، ليسلمك إلى جمالية تهذب ذاك الجانب الذي اخشوشن بفعل رتابة الحياة الروتينية، تخاطب الجمال المكنون في داخلك، تعايش في الأدب أحلامك و آمالك، خسارتك، وانكساراتك ، وأفكارك، عبر مرآة الآخر الذي تقرأ عنه، دون أن تكشف أمام الجميع سوءاتك النفسية، تحاكم و تخضع تلك الافكار التي تقرأها لمحاكمة عقلية وأخلاقية و عاطفية دون أن تخجل من ابداء رأيك بصراحة، فيما لو كنت تجلس أمام جمع ممن يمتهنون الكتابة الفلسفية ، هل كنت ستجرؤ حقاً على محاكمة افكارهم؟ كنت قطعا ستخاف من اتهامك بالجهل، إما لتعمدهم التقعر اللغوي، أو لاشكال الطرح و اعتماده على لغة تخصصية.
لكنك في الأدب، تلامس أفكار اعظم المفكرين مبثوثة في العمل الروائي من خلال أحداثه.. ومع ذلك فلا أقرأ الأدب سعياً نحو المعرفة، فالكتب دوني كثيرة، ولا أقرأ الأدب لمجرد اشعال فتيل العاطفة، فمن قرأ رواية ( شيطان أبد الدهر) أو ( رواية الخلود) سيجد أن الاشتعال العاطفي هو اخر ما يرمي إليه الكاتب، ولا أقرأ الأدب الروائي بشكل خاص سعياً وراء فخ شعرنة اللغة … فكل ذاك لا يجعل من النص الروائي نصاً أدبياً فقط في نظري… بل تلك الفوضى التي يخلفها النص في داخلي هو ما أسعى إليه، ذاك التوتر الذي تتفصد كل مسامة من مسامات جسدي عرقاً بسببه، تلك الحاجة إلى الحديث إلى شخص ما حالاً والآن لأبثه ما أشعر به، تلك الحركة التي لا تهدأ، أقف.. أجلس على حافة كرسيّ الأصفر، أسارع إلى الموقد .. أضع ( دلة القهوة) أحرك ما بداخلها بعصبية، لو كنت مدخنة لقطعا اشعلت سيجارة… أركض نحو مكتبتي .. أخرج بعضا من دفاتري التي احتفظ فيها باقتباسات معينة ، وأجدها تناسب فكرة ما طرأت في ذهني الآن.. اتصفح الفيسبوك وألعن الساعة التي أقرأ فيها نصاً مقتبسا لروائية ما ( نص في غاية البشاعة قالت عنه احدى صديقاتي يشبه في سرده ولغته حلقة من حلقات باب الحارة) أغلق الفيسبوك وأنوي الكتابة، تفور القهوة على الموقد، أنظفه و ألقي ما تبقى إلى حوض التنظيف.. فالقهوة اخت الوقت وأنا لا وقت عندي! لابد أن أفرغ ذاك الانفعال على شاشة هاتفي، لابد أن أكتب، فالكتابة تنقذني من حيرتي و تشوشي.
ان استطاع نص ما أن يحدث تلك الحالة فهو نص أدبي في نظري، اما تلك النصوص الباردة ، المحايدة، التقريرية، التي تشبه لغة الصحافة التي كان علي ان اتقنها، فلا أرى فيها إلا نصاً عابراً في حقل الأدب ، لا قاراً فيه.
وهذا ما أحدثته ( فقهاء الظلام) في كينونتي، ماذا لو عشت يوماً واحداً؟ " فالبرهة تلتقط الزمن بمنقارها الأليف" فخلافاً لفلسفة ميلان كونديرا التي رددها توماس في " كائن لا تحتمل خفته" بأن
: "مرة واحدة لا تحتسب، مرة واحدة هي أبداً، ما الذي تساويه الحياة ان كان التمرين الأول على الحياة، هو الحياة نفسها، مرة واحدة هي أبداً"
فإن سليم بركات يرى
"يوم واحد يكفي. كم عمرك؟ عشرون سنة؟ وفَّرْتِ على نفسك مليارات من هذه الهَأْهَأة لو عشتِ يوماً واحداً فقط. …. عمر الإنسان، في الأصل، يوم واحد، ومن يعيشون لسنين هم استثناء"
كيف تعيش يومك هو ما يجعل منك إنساناً وفق فلسفة بركات لا كم تعيش من الزمن، وهذه الكيفية تستلزم " معرفة" لكن المعرفة بحدودها النظرية لا تغني ولا تسمن من جوع إن لم تخضع للتجربة، التي من خلالها يعيد المرء مساءلة نفسه واختبارها وفق معطيات اللحظة الراهنة، والشروط الموضوعية التي يمر بها: فكل الحديث عن المثاليات هو مجرد وهم ما لم يصطدم بأرض الواقع، كل الحديث عن التضحية والحب والشرف و الصداقة واستيعاب الآخر هو مجرد معرفة نظرية لا تقدم ولا تؤخر ما لم نخضع تلك المعرفة لمحك التجربة، قيل يوما ( الكل شريف حتى تظهر العاهرة) وبدوري أقول: كلنا مثاليون .. ملائكيون حتى تتعارض معرفتنا مع واقعنا.
: ❞ هذه، إذاً، هي الكرة المنفلتة من ماضيه؛ كرة اليوم الواحد المعلوم بفجره، وصباحه، وظهره، وعصره، ومغيبه، ومسائه، وليله؛ كرة اللامعلوم؛ الكرة الجاثية بعينين مغمضتين خضوعاً أمام معرفة تعبر الجهة الأخرى على ظهر حمار. و«المذاق؟» يسأل «بيكاس» نفسه، ليردّ: «فتحتُ عينيَّ فرأيت كل ما أعرفه، أما المذاق فليس إلا هذا الوهن»
آدم طرد من جنته حين أغوته الحية ليأكل من شجرة المعرفة حسب الموروث المسيحي، فهل كانت المعرفة تستحق هذا الثمن؟
"إني ملمٌّ بالأشياء، لكني أفتقر إلى الإحساس بطعمها. لقد رأيت من قبل، في مكان ما - لن أستقصيه، فأنا متعب - من يأكل خبزاً ولحماً، ولكني تذوَّقتهما اليوم فكأنني عرفتهما توّاً، لا من قبل".
إن كان ثمن المعرفة استلزم الطرد من الجنة، فما هو ثمن اختبارها و تذوقها؟ قد يكون الثمن هو الشعور بالاغتراب ، اغتراب الذات عن ذاتها بالدرجة الأولى، حين ترى أن معرفتها تفترق عن معنى تجربتها، والصورة التي كونتها عن ذاتها من خلال المعرفة المجردة ، هي صورة قد تصل لحد التناقض في التجربة.
هذا هو المحور الأول الذي رسمه لنا بركات من خلال شخصية " بيكاس" الذي يعني اسمه لا أحد، فهو مجرد معرفة نظرية لم تكونها التجربة بعد، فكأن " ماهيته" لم تتحقق بعد، ولم تنتقل من حالة العدم الى الوجود.
لكن ماذا عن وجودنا بمعناه المادي المحض؟
نجد في الفصل الثاني ان سليم يتتبع حركة النطف في السائل الدبق، حركة مفعمة بالعنف، والرغبة في الوصول الى تلقيح البويضة والفوز بها، فحيوان واحد فقط هو من سينجح في الأمر !
وكأن وجودنا قائم على فكرة " الصراع من أجل البقاء" صراع تبدأه النطف، و ينهيه ابن " عڤدي" المهرب حين يقتل كل الرجال من عائلة منافسه، للموت رائحة الزجاج، و تهشمه، و حدته… وفي هذا الفصل تجلى ذكاء بركات في عرض قصة النطف وصراعها واقتتالها، بالتوازي مع قصة المجزرة التي ارتكبها ابن عڤدي.
ماذا بعد أن روى لنا بركات قصة بدء وجودنا، وتحقق ماهيته، هل هناك ما يود الإشارة إليه في رحلة وجودنا نحو الموت( البطل بيكاس ولد وقد يكبر في الساعة ثلاثة اعوام.. ففي منتصف يوم ولادته بلغ التسعين من العمر)
أي ان رحلة وجودنا هي رحلة نحو الفناء، فالزمن نكبتنا الأولى ، على حد وصف فوكنر.
يبدو ان بركات كان مسكوناً بفكرة تحقيق العدالة الغائبة، العدالة المحفوظة في " الدفتر الأزرق" الذي كان يملكه والد بيكاس، و نجد قصاصات منه قرب كل جثة ظالم يموت، والأصابع التي حاولت التلاعب به قد نالها الموت و تيبست ، حتى اينعت حديقة بيت عڤدي حقل أصابع!
هل يمكن تحقيق العدالة؟
معرفة العدالة و التنظير لها شيء و تحقيقها شيء اخر، فلتحقيق بعض الخير يستلزمك احيانا الكثير من الشر! والقتل! والاشباح!
الكل يقتتل في الرواية: القرى تقتتل، قرى الاكراد فيما بينها، و قرى الأكراد و البدو… المهربون و رجال الأمن .. الرجال والنساء.. حشمو يقتل خاتي.. و الأشباح في الغابة تلاحق الرجال… أجواء كابوسية غرائبية، تشيع حالة من الفوضى ، تلك الفوضى ينظمها خط البحث عن العدالة المفقودة عبر لغة القوة.
الكل يحاول اصطيادها كما حاول الطفل كرزو اصطياد الزرازير التي كانت تقف على الاسلاك في يومه الثلجي الكثيف.. زرازير سوداء في السماء تقابل بياض الأرض.. لكنها تفلت منه مراراً .. ومع ذلك لا يكف عن محاولة( تجربة اصطيادها) وبالمناسبة فالروائي في حياته الواقعية كان مولعا بالصيد وصيد الطيور بشكل خاص، حتى اهدته زوجته مؤخرا بندقية للصيد.. هل فكرة الصيد توازي فكرة اقتناص المعرفة و حيازتها عبر عمل تجريبي!؟ و هو الصيد؟ ربما… لاننا سنجد الطفل كرزو دائما يتلصص.. ويراقب.. ويعرف أكثر مما يجب أن يعرف.. ويقهقه.. ساخراً من جهل من حوله.. وقف فوق السطح حين سد جهور و عڤدي الزقاق بسور طيني… وقف يرقب حركة اهل القرية وهم يتنقلون.. والحيرة بادية على وجوههم.
ما تخلفه هذه الرواية من فوضى جميلة في النفس يشبه ما وصف به بركات حال أبطالها :
" ليس على أحد أن ينام». وليس على أحد، يقيناً، أن ينام في هذه الفوضى الغامرة للطقس وللوقائع.
فحشمو وجهور يتناوبان الصعود إلى قمة السُّلَّم الكهرماني ككشّافين على صارية؛ وعڤدي يقتسم، بصوت عالٍ، أقاليمَ لم يرها، بينه وبين الظلام في خيمته. وقرية «الهلالية» تغرق في دوي الطلقات التي لا تهدأ بين المهرّبين وخَفَر الحدود؛ ونهر «جغجغ» تلتحمُ ضفاف فرعيه بالثلج الذي يتمدّد قليلاً قليلاً فوق الماء كأغصان الغَرَب. وشجيرة الزيتون التي لن تكبر قط، من وحشتها، تنتفض من همس صوتٍ تعرفه يسأل شخصاً تعرفه: «أين الدفتر؟». وكرزو يتجاهل نظرات برينا إلى الدفتر الملتصق بأضلاعه الرقيقة تحت إبطه، وهي حيرى في مقارنته بالذي كان زوجها يتأمل فيه فضَّةَ رعبه. أما الحالُ التي وصلتْ دغلَ «الهلالية» بدغل «نصيبين» فكانت إمعاناً من الشمال في حبكته المضحكة"
هي رواية مرهقة.. أنيقة اللغة.. ثقيلة في غرائبيتها.. لكنها "لعبة الظلال التي تهرب من كثافة الكتلة" .. رواية متموجة بألوان الطيف الانفعالي و الفلسفي .. لا مكان للبياض فيها سوى في الثلج الذي خلا من مدلولاته المعتادة ليكون رمزاً للامعنى.. "أبيض أبلهُ، طاووسيٌّ، عارٍ من النمنمة الرحيمة التي تحرّر الشكل من شَبَهِهِ. أبيضُ إلى غاية البياض. راكنٌ إلى لُعبةِ لونِهِ. جاهلٌ، وعليه سيماء البطش".
*" للموت رائحة الزجاج" عنوان مجموعة قصصية لحسام معروف.
#رائدة_نيروخ
#فقهاء_الظلام
#سليم_بركات