العمل عظيم من جميع النواحي، على سبيل التقريب- عظيم عظمة الفنون البصرية لعصر النهضة مثل لوحة لبوتتشيلي أو تمثال لميكلآنجلو، لها ذلك الجلال المهيب الذي لا تخطؤه عين.
حتى أن الكوميديا بهذه الصفة، تمتلئ بالصور الحية التي لا تقل جلالا عن فنون هذا العصر المدهش.
لم يترك دانتي مجالا إلا واعتلى قمته، قل ذلك في الخيال، قل في التعبير، في العاطفة، في الوصف، في الإيجاز، في رسم الشخصيات، في الخلق الفني… هو الفنان الكامل بحق.
صحيح أنني ربما قد فوتّ على نفسي المتعة الكاملة لها لعدم تحمسي لبعض مواضيعها مثل اللاهوت والسياسة (اللاهوت أكثر)، وعدم تمكني من الإلمام بالأمور الفلكية بشكل كامل- فمن الفلك بنى دانتي مسرح الكوميديا، وكنت أتحين الخروج إلى صورة شعرية من صور ولهه ببياتريتشي مثلا، أو صورة للطبيعة يخلطها بأسلوبه الحر في جو الفردوس، أو قصة عجيبة من قصصه، لذا انتقصت نجمة من التقييم، وهي ليست تعبيرا عن قيمة العمل لا سمح الله! ولكن هي تعبير عن تشككي في قدرتي على التقييم الكامل.
كان هذا الجزء مليئا بالمواضيع اللاهوتية التي كانت ثقيلة على قلبي، ولكن من يتصور الكوميديا بغير اللاهوت، وهي بغير ذكرها إنما تقوم عليه وتتجه إليه.
انتهت الكوميديا كما بدأتها؛ فوق سطح منزلنا، مستلقيا محاولا خلق جو شعري قوامه النجوم والقمر ونسيم من مقدمات صيف، أودّع بها الكتاب الذي بقى مفتوحًا معي قرابة العام. حسنا بخلاف قرصات الباعوض، واختباء القمر خلف الجدار العالى للغرفة الوحيدة على السطح، فكانت الشاعرية حاضرة جدا- لا أنكر.
لكن كيف يمكن أن تنتهي الكوميديا من دون أن يحضر قارئها امتنان غير محدود للمترجم حسن عثمان، وأي خدمة قدمها، فأن تخرج من هذا العمل بغير جهد يُذكر لفهم أجواء الكوميديا بكل ما اشتملت عليه من تفاصيل وأحداث تباينت غموضها، لهو، بلا شك، نتاج جهد استثنائي قام به المترجم، وقد قام بمشاركة القراء جهوده والعقبات التي واجهها خلال سنين ترجمته الكوميديا في نهاية الكتاب. لم أفوّت حاشيةً من حواشيه وهي أكثر من نص الكوميديا نفسه، وبقدر ما ساح دانتي في عوالم شتّى؛ في السياسة، اللاهوت، الفلك، السياسة، التاريخ، الجغرافيا، الفنون…، تجد الحواشي حاضرة وبقوة لتعضد تجربة القارئ؛ بدونها لم أكن لأعتبر نفسي قرأت الكوميديا. وهنا يجب الإشادة بتخليه عن نزعة كثير من المترجمين تقفية الشعر المترجم، ليجعله في أبهى وأكمل صوره من دون تشويه القوافي المُصطنعة، ليركز جهده على نقل الصور والمعاني التي رسمها دانتي، وهو معترف في أكثر من موضع أن أبياتًا من الكوميديا هي أروع ما تكون في نصّها الأصلي وأنه يستحيل نقل أجوائها لأي لغة أخرى، وهذا الاعتراف بحد ذاته جزء من التجربة التي قام بتشييدها، وبشكل ما جعلتني أتذوق جمال النص الحاضر، مع ذلك فكان نقله شعر دانتي جميلا لا يخلو من بديع تصرفه وانتقائه الألفاظ، متمكنا من أدواته مترجمًا وأديبًا على حدّ سواء.