نحو ثقافة تأصيلية (البيان التأصيلي)
تأليف
محمد محمود شاويش
(تأليف)
تبدو التأصيلية أحياناً كاتجاه عام في مسائل الثقافة يريد أن يترك على تميز الذات الثقافية والحضارية العربية الإسلامية تميزاً يقضي على أي سبب. للإستلاب الثقافي والحضاري، وأحياناً أخرى لا تكتفي بهذا الموقف شبه الأكاديمي بل تخوض غمار الجدال السياسي، حيث تؤكد إلتزامها بالمجتمع الأهلي الذي أحسن واستبدر كلياً من ...ساحة القرار. ومهما يكن من أمر فإن مجال عمل النزعة التأصيلية في الثقافة هو الآن يقتصر على الساحة الثقافية العربية، وهي تعد نفسها جزءاً من حركة الصحوة الإسلامية الكبرى التي تشهدها البلاد العربية (بل يشهدها العالم الإسلامي كله) غير أن تميز نفسها (رغم انسجامها العام مع شعار "الإسلام هو الحل") بميزة ثقافية ورؤية حضارية لا تتطابق دوماً مع تيارات الحركة الإسلامية (وخصوصاً مع بعض الإتجاهات الخاصة ضيقة الأفق، التي هي لحسن الحظ، لا تشكل التيار الغائب في الحركة الإسلامية العربية) ترى التأصيلية أن الإسلام هو دين وحضارة وأن تجربة المسلمين الحضارية هي جزء لا يتجزأ من الإسلام، التأصيلية تهتم بالتشكيلة الحضارية الإسلامية وتدافع عنها بوصفها نتيجة الرسالة المحمدية التي تركت منطقة واسعة للإجتهاد البشري ضمن الثوابت الكبرى التي تشكل العلاقات الكبرى الموجهة للسائرين على الطريق. من هنا فإن التأصيلية لها نظرتها الخاصة: 1- ترى أن الإسلام بعبقريته استوعب جهود أبناء الديانات الأخرى وجعلهم يشاركون في بناء هذه الحضارة الإسلامية، وهكذا فإن جهود الأطباء والفلكيين وغيرهم، النصارى والصابئة شكلت جزءاً من الحضارة الإسلامية 2- من هنا فإن التأصيلية يهمها ما يجري في الساحة الثقافية لأبناء الديانات الأخرى المشاركة في الوطن العربي 3- والتأصيليون الذين هم "عمال ثقافيون"أساساً يناحرون في ميدان عملهم نضال التيارات الدينية التي تكافح تغريب المجتمع، وبصفة خاصة تكافح تحطيم الأسرة غير أنهم يقفون في وجه بعض الجماعات الصغيرة المكافحة التي نقلت عداءها من الأنظمة السياسية الى المجتمع العربي نفسه، أن هذا المجتمع ليس كافراً كما يقول هؤلاء، بل هو من الناحية الجوهرية مجتمع إسلامي يحتاج دعماً في جهوده للحفاظ على هويته. وفي مقالات هذا الكتاب محاولات تطبيقية تحتاج الى مزيد من التعميق عمودياً وأفقياً للرؤية التأصيلية النقدية، هذه الرؤية تعمل على نقد الثقافة العربية المعاصرة وفصل حبها الأصيل الملتصق بهمومها الحقيقية ورؤيتها التاريخية، ورسالتها الدينية عن زوانها الدخيل الذي يتناقض مع بنيتها ورسالتها. والتأصيلية اتجاه هو أبعد ما يكون عن التعصب (فهو أبعد ما يكون عن ما يسببه الإعلام بالأصولية إذ أن هذه الأخيرة تعني اتجاهاً غربياً كنسياً يريد فرض مبادئ جامدة على الواقع)، والتأصيلية تريد السير مع الواقع ومع التجربة التاريخية للمسلمين الذين طبقوا المبادئ الإسلامية بصورة خلاقة قابلة دوماً للنقد من الداخل على شرط أن لا يكون هذا النقد استلابياً مستنداً الى عقد النقص اتجاه الآخر. من هنا فقد أراد المؤلف من كتابه هذا طرح الأفكار الأهم والأعم التي تشكل لب الفكر التأصيلي العربي المعاصر، هذا الفكر ساهم في تكوينه كثير من كتّاب العرب منذ مطلع ما سمي بعصر النهضة. إذن فإن التأصيلية ليست بفلسفة جديدة، إنها "صيحة في واد" بتعبير الكواكبي في سياق مشابه. ولكنه ليس بالوادي الخالي كما كان الأحمر في أيام الكواكبي، ولذلك فالأمل كبير بأن يُسمع الصدى، منبعثاً لا من سفوحه بل من حناجر أهله.يجد العربي نفسه في نهايات القرن العشرين في وضع عجيب، فهو يكاد يطرح الأسئلة نفسها التي طرحها على نفسه في بدايات هذا القرن! وسواء أدار السؤال حول الحرية أو حول الخبز فلا بد أن يذكر الغرب ومصالح الغرب وتدخله. والأمر هو هو في العشرينات كما في التسعينات! ولكن صياغة السؤال كان تختلف، وليس هذا الاختلاف ثانوياً، بل لعله أحياناً بيت القصيد لأن صيغة معينة للسؤال تستدعي أجوبة معينة وتستبعد أخرى، وتأمل معي السؤالين الشهرين التاليين: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ إن السؤال الأول يستدعي فكرة اللحاق بالغير (ويشي بأفضلية الغير لأنه سابق)، أما السؤال الثاني فهو بالعكس يحدد المسلمين كذات والغير كموضوع (وفي الخلفية يتم تصوير ذلك الغير كخاسر). غير أن العقود التي مرت على المنطقة جعلت الأسئلة كلها تكاد تترمز حول مسألة اللحاق بالغرب المتقدم ولذلك فمن المبرر أن يطلق على الأجوبة كلها -تقريباً- وصمة: الأجوبة التغريبية، وأن ينشأ بمقابلها "الجواب التأصيلي": ومنطلق مشروعية هذا الجواب هو نفسه منطلق لا مشروعية الجواب التغريبي أي: موقع الذات من المسألة. السؤال التعريبي يغيب الذات والتأصيلي ينطلق منا. ويقصد بالـ"تغريبي" هنا كل الحداثيين والإسلاميين لأن كلهيما يريد أن يقضي على الذات التقليدية لصالح مشروع تخيلي هو "حتة من أوروبا" -بتعبير الشاعر الشعبي المصري- والفرق الوحيد بين شقي المشروع التغريبي هو أن الإسلاميين يريدونها "ذاتاً أوروبية مسلمة"!