بين لهجة فكر وأخرى في المواقف الصعبة أو الغريبة قد تسرب نفوسنا هذا السؤال :"أين عقلي؟!"،وهو سؤال ربما نتحتفظ به في طيات هذه اللهجات فلا نعلنه،ولعلنا نطرحه ونحن في حالة تعجب فحسب ولا ننتظر إجابة تعقبه،وقد ننطق بهذا السؤال ونحن نأمل في إجابة تنقذنا مما نمر به،ويحدث أن نوجه تساؤلنا هذا إلى بعض المشاهير الذي يدخلون ساحات المحاكم وخاصة حينما يكون السبب الظاهري لدخولها هو مخالفة كان بالإمكان تجنبها أو إننا نستغرب من وقوعهم فيها ،ومن هذه المخالفات السرقة والشخصية المعروفة لديها المال الوفير ،و من ضمنها أيضاً السرعة في قيادة السيارة بالرغم من وجود سائق لدى الشخصية الإعلامية وغيرها من المخالفات ،وهناك أيضاً محاولات تجريح الجسد والإنتحار من قبل بعض هذه الشخصيات المتواجدة بقوة إعلامياً،وتتضاعف ملامح تعجبنا من هذه المواقف لأننا غالباً ما نتصور بأنها شخصيات تمتلك الوجاهة الإجتماعية والسلطة وأرصدة بنكية كبيرة ،فنستغرب من التصرفات التي من النوع التي وصفها أعلاه من قبلها وربما نستهجنها أكثر لأنها تمثل قدوة لدى فئات من مجتمعنا حتىوإن كانت شخصيات عالمية وليست محلية ، فهل ما نراها إمتيازات هي في الواقع قيود بالنسبة للشخصيات المشار إليها ،هل هي تفتقد خصوصيتها أو أن هذا جزء من حب لفت الأنظار من قبلها وحصد مقدار أكبر من الشهر كدعاية أو هو عبارة عن محفز إبداعي هي مضطرة إليه أوهو نقص فيها تحاول تعويضه أو إنها في المطاف أنفس بشرية أحياناً تكون محقة وأحياناً تكون مصيبة؟!
كتاب (عقل غير هادئ:سيرة ذاتية عن الهوس والإكتئاب والجنون) للكاتبة كاي ردفيلد جاميسون و من ترجمة حمد العيسى،يكلمنا عن المرض النفسي وتحديداً "إضطراب وجداني القطب" الذي إنتشر الحديث عنه في وسائل إعلام وربطه بالمشاهير من أهل الفن مؤخراً،وإن كانت كاتبتنا وهي تروي حكاياتها مع هذا المرض تحبذ أن تستخدم مصطلح "ذهان الهوس الإكتئابي"،فهي تشعر بأنه يعبر عن المعاناة التي ترافق المرض ويصف مراحله وأعراضه بدقة،وقبل أن يدلو المترجم بمقدمته لهذا الكتاب منح زاوية للكاتبة أمل زاهد ،وفي هذه الزاوية تم التطرق إلى صعوبة إعتراف المريض العقلي والنفسي بمرضه لقلقه من ردات فعل محيطه ومجتمعه،فإذا كانت ابنة الطبقة المتعلمة والمثقفة الأمريكية ترددت كثيراً لتعترف بعلتها العقلية،فكيف الحال بالمجتمعات التي لا تمتلك هذا القدر من التفهم والحرية والمساندة،وإذا بالمترجم يوضح بعض أسباب هذا التردد من قبل الكاتبة ومنها أسباب شخصية متعلقة بمكانة عائلتها والتدين البروتساتني فيها،وأسباب مهنية تتمحور حول إحتمالية فقدها لوظيفتها والوجاهة الأكاديمية التي وصلت إليها،وإذا بصفحات الكتاب تبدو كدفتر ذكرى لشابة أمريكية في فترة مصيرية من حياتها ،وهي تعيدنا إلى ماضيها لنفهم كيف بدأت رحلتها مع أول لمسة ألم،وهي لمسة ألم لأنها كانت تبدو عادية وبها شيء من الطرافة الإبداعية الجنونية،والمشهد الذي إختطقته كاتبتنا من مذكراتها كان ركضها في موقف السيارات في فترة دراستها مع زميلها ،والشرطي لم يعتقلها عندما عرف بأن تخصصها الجامعي كان الطب النفسي،هي إستحضرت لنا هذا المشهد لتبين لنا بأن ما حدث في ذلك اليوم كان عرضاً من أعراض مرضها ولكن تم تجاهله من قبل من قابلوها ومن قبلها هي أيضا نوعاً ما،فهي في طفولتها عاشت في أجواء إستقرار أسري واضح و والدها كان مهتماً في عمله بالطيران وكان عاشقاً للسماء وهتماً بالأدب فحلق عقلها معه في هذه السماوات وأمها كانت تعتني بعائلتها وتحرص على أن يحسن فلذات كبدها التعامل مع الآخرين،كانت لدى هذه الأم إبنة متمردة قليلاً ولكنها لم تكن كاي ،فكاي كانت الابنة المجتهدة دراسياً والمهذبة جداً والمحبوبة للغاية ،فكانت الرياضيات مادتها المفضلة والطب هو التخصص الذي حلمت به،وإذا بأمواج مزاج ذهن هذه الصغيرة تتقلب ويحيطها الأعصار وكأنها أصبحت شخصاً آخر،فتعرضت لنوبات طفيفة وهي في أول مراهقتها ولكن نوبة الهذيان الحقيقية الأولى لم تصبها إلا وهي طالبة علم نفس،وهي مفارقة كبيرة في حياتها،وإحتارت كثيراً في فهم وتفسير ما حصل لها ،وإذا بمتوجات تغير مزاجها والهذيان والإكتئاب تتزايد ولا ترفق بها وهي في مقتبل عمرها وفي أكثر السنوات الدراسة التي تحتاج فيها إلى التركيز،فأصبحت تهمل في هندامها وترتدي الملابس ذاتها لأيام وتغير ذوقها في إنتقاء الموسيقى وصار أسلوبها في التعامل مع الآخرين فاقداً للباقة الشكلية التي كانت من سماتها وتغيبت عن بعض المحاضرات الدراسية ،وإذا بها تحضر في ذلك الوقت محاضرة نفسية فيها يطلب من الحضور تفسير الصور المعروضة عليهم وكانت تعليقاتها هي الأكثر غرابة وتمنت لو أن الطبيب المحاضر شخصها كمريضة بينها وبين نفسها ولكنه بعد المحاضرة هنئها على إبداعها،وأعراض مرضها إمتدت لتصل إلى إدمان الشراء بحيث أصبحت مديونة وما أزعجها هو أنها كانت تشتري أشياء لا تحتاجها وأيضاً لم تكن تحبها ،فإذا بأخيها العارف بشؤون الأموال وكيفية التصرف فيها بحكم حصوله على درجة الدكتوراة في ذلك يقوم بمساعدتها دون أن يحكم عليها بالفشل وكانت هذه أوضح إستغاثة نداء قامت بها ،وإستغرقت وقتاً مليء بالوجع لتتوجه إلى عيادة طبيب نفسي وإذا به يؤكد لها مرضها العقلي ويسميه لها ويصف لها دواء اليثيوم الذي كانت ممن يقفون ضده إستخدامه،فإذا بها تمر بفترة مد وجزر برفقة هذا الدواء ،فهي إستخدمته لفترات وهجرته لفترات،وفي فترات إستخدامه كان مزاجها أفضل ولكن كان عليها تحمل القيء والغثيان وبقية الآثار الجانبية له والتي كان أشدها هو أنها كانت تبدو كمن تسمم أو كمن تعاطى مخدرات وكانت حينها تحمل وصفات الأطباء حتى لا يتم توقفيها من قبل رجال الأمن،أما في فترات تمردها على الدواء بفعل رفضها المبطن لها كونها لا تريد أن تقر بمرضها أو لتأثير بعض التوجهات الدينية لعائلتها وتحديداً لأختها التي كانت تفضل أن يتحمل المريض مرضه وأن يتقبل ما كتبه الله له مهما كان وأن لا يسعى للتدخل في المقادير الإلهية ولو بأخذ حبة دواء ،وفي ظل كل التحركات لأمواج مزاجها كانت تواصل الدراسة وتجاهد نفسها خاصة أن المرض صار يؤثر على قدرتها على القراءة فصارت لا تسطتيع أن تقرأ أكثر من فقرتين،وكانت أيضاً تقترب بشدة من المرضى الذي يعانون من مرضها وكانت الأنجح في التواصل معهم من بين أقرانها،وإذا بمحاولة إنتحار فاشلة قامت بتحفيز تقلقل علاقتها مع من تزوجته و قلقها حول دراستها وبالطبع إنقاعها عن تناول الليثيوم ،وسبب صمودها كان عائلتها ودعمها الكبير لها فأمها ساهمت في العناية بها خاصة في الفترات التي كانت فيها منهكة جسدياً،فعادت كاتبتنا لتناول دوائها و وواصلت مسيرتها العلمية المشرفة وأخبرت من درست وعملت معهم بمرضها حتى لا تتعرض لمسائلات قانونية وأخلاقية في العمل والدراسة،فيكفيها بأنها إمرأة تنافس ذكوراَ فإذا بالمرض يزيد من متاعبها ،وإذا بها مع الوقت تكتسب خبرات في التعايش مع مرضها بالإضافة إلى التداوي والجلسات النفسية هي أقبلت على قراءة كتب الأطفال لنها كانت قصيرة وتكتب بخط كبيرة فإستعادت متعة القراءة والعلم تقدم وصارت مع العلاج قادرة القراءة كما كانت في السابق وعاد لها نهمها المعرفي ،وأيضاً بمثابرتها وصلت لمنصب أكاديمي رفيع وكما كانت تفعل في السابق أخطرت من حولها بطريقة ما بمرضها ،أما فيما يتعلق بالحب فهي إنفصلت عن زوجها الأول الفنان الفرنسي ولكنها إستمرت في صداقتها معه لأنه كان متفهماً لشخصيتها ولمرضها وإلتقت بحب رومنسي عرام إنتهى بوفاة حبيبها ديفيد ولكن إيمانها ردعها من محاولة الإنتحار والإستسلام فواصلت حياتها حتى إلتقت بزوجها الحالي طبيب الإنفصال الذي تمسك بها وإعتنى بها،أما النقطة التي هيجت مشاعرها كثيراً فهي السمة الجينية لمرضها،فهي لم ترد أن يغضب أي فرد من عائلتها حول هذا الإستنتاج وكذلك هي تاقت لإنجاب الأطفال وتضايقت عندما طلب منها طبيب نفسي أن لا تنجب حتى لا تورث المرض،وهي غضبت كثيراً من تعليقه وتمنت لو أنها أنجبت ولكنها سعدت بالمساهمة في تربية أبناء أخيها و زوجها لديه أطفال من زواج آخر،وهي حصلت على هجوم من إحدى من تشاركها مرضها على كلمة "جنون" التي وردت في إعلان لمحاضرة لها ولم تكن كاتبتنا قد أعلنت عن معاناتها مع المرض آنذاك وأوضحت بأن الموضوع لا يدور حول المسميات وإنما ما هو واقع بالفعل و المساعدات و وسائل الدعم التي ينبغي تقديمها ، وفي النهاية الكاتبة تبدو لنا وهي تحكي ما حصل معها وكأنها مرتاحة مع ذاتها وراضية بكل ما كان وترجو أن تكون في تنهداتها السابقة ترانيم لأفراح آتية...
كتاب (عقل غير هادئ:سيرة ذاتية عن الهوس والإكتئاب والجنون) للكاتبة كاي ردفيلد جاميسون،يقربنا لنرى ما تقوله تحركات الأمزجة دون أن نستبق إتهامها بالعبثية!