أنطولوجيا اللغة عند مارتن هيدجر
تأليف
إبراهيم أحمد
(تأليف)
الإنسان في نظر الفلسفة الغربية المعاصرة هو باب الحداثة، والوحيد الذي بمقدوره صناعة مابعد الحداثة، إذ يسعى دائماً في بحثه الى كشف الحقيقة الإنسانية من أصل تأسيس السؤال وتحطيم التفكير المغلق، ومحاولة فهم الأنطولوجية الغربية في عمقها، وفي حاضرها اليومي بأبعادها الشخصية والإنسانية بمختلف تجليلاتها الحضارية والثقافية.
ومن هنا كان ...حضور "مارتن هيدجر" الفيلسوف الألماني المعاصر أمر ضروري لربط حلقات الفلسفة ولفهم الإهتمام الكبير الذي ستوليه هذه الفلسفات المذهبية للغة، إذ سنشاهد أن هذا الإهتمام الكبير أمر فرضته التقنية التي رفعت شعار اللابساطة، اللاوضوح، اللاطبيعية…، وحتى لا تُعدم اللغة وجب أن تكون فعل خلق ووعي، وتغيير، ومجاوزة في جدلية الوجود الإنساني. إن فلسفة اللغة عند "هيدجر" أصبحت تفتح آفاقاً متعددة ومتنوعة للنظر في بنية الكينونة الإنسانية، من خلال مجموع الكائنات المتجسدة والعينية من جهة، وفي سياق الجوانب المختلفة للعالم الخارجي من جهة أخرى.
إنها فلسفة تبحث في الوجود الإنساني أو في الذات الإنسانية، إنطلاقاً من الكلمة والقول والشعر والتأويل. ولقد نجحت هذه الفلسفة في تغيير النظرة الشائعة للذات والحضور والوعي، بل إن القارئ، ومن خلال هذا البحث سيلحظ سهولة الإنتقال من فضاء اللغة الى حيّز فلسفي يجعل اللغة تربطه بالكائن البشري. وتأسيساً لما سبق، فإنه يمكن القول أننا صرنا نبحث ليس فقط داخل النص الظاهر والكلام الرسمي واللغة الفصيحة المتعالية والخطاب العلني المكتوب. بل إنتقل الإهتمام الى اللاوعي والى القطاع المعاش أو الظلي المتواري بين جنبات الذات والنصوص المتناثرة، وفي الخطابات والشخصية الإنسانية بمختلف أبعادها وتجلياتها، إذ لم يعد جائزاً إغفال البعد المستتر، كذلك فإن للمخيول والرمزي والنفساني جوانب ذات تأثير، وتتمتع بصلابة ليست أدنى من صلابة المحسوس والواقعي والجسدي.
من هنا كان إختيار الباحث "مارتن هيدجر" دون غيره من الفلاسفة لدراسة قضية اللغة والأنطولوجيا عنده إختياراً قائماً على مجموعة من الأسباب: أولها أهمية الفكر الهيدجري وتأثيره في تاريخ الفكر الغربي.
وثاني هذه الأسباب أن دراسة فلسفة "هيدجر" تحيلنا بشكل واسع الى مسألة اللغة في علاقتها بالأنطولوجيا، كما تنعكس هذه المسألة في التفسيرات المختلفة والمتعارضة أحياناً والتي طرحت عند كل قراءة تطال فلسفته سواء في سياق الفكر الغربي أو الكتابات العربية المعاصرة، وذلك لما تحمله هذه الفلسفة من أهمية. أما ثالث هذه الأسباب وآخرها رؤية الباحث الخاصة لأهمية فلسفة "هيدجرهم" وما يرتبط بها من رهانات فلسفية تتسم بكثير من الزخم والعمق فيما يخص ماهية اللغة ودورها في فهم الوجود إذ لم يعد أساس اللغة الإنسانية النمو أو المنطق، وإنما " الكلام" أو "المعنى" من ناحية وجودية، إذ سيتحول الوجود الإنساني الى "حوار" بالضرورة. كما سيتحول "الكلام" الى عنصر أساسي يدخل في تركيب ذلك الوجود ويحقق له الإنفتاح على موجودات العالم.
ومن ثمة فإن "هيدجر" يقترح فلسفة" في فلسفة اللغة والأنطولوجيا يمكنها أن تساعد على كشف الجوانب المشابهة مع فكر غيره، من الفلاسفة الذي سبقوه أو الذين جاؤوا من بعده. وفي هذا مايحقق بعض خطوات الطموح في إعادة قراءة بعض النصوص في الفكر العربي والتي لا تزال تثير بعض المعضلات على المستوى الوجودي والمعرفي على حدّ سواء. والآفاق التي يمكن أن يفتحها هذا البحث للقارئ ثرية ومتنوعة، ويمكن أن تضيء له كثيراً من الجوانب التي لا تزال مجهولة في الفكر، بل ليس من المبالغة القول أنها يمكن أن تصحح الكثير من الأفكار الشائعة والمستقرة.
وما هو متفق عليه اليوم، أن فلسفة "هيدجر" تستجلب يوماً عن يوم مزيداً من الإهتمام في الغرب من هنا، فإن أهمية هذا البحث يتجلى في أنه محاولة جديدة لتشخيص الحاضر أو الحداثة عبر مختلف مكوناته: كالعالم، العقل، التقنية، الوجود، اللغة…الخ، بالإضافة الى كونه يتضمن محاولة تفسير نمائي أو قدري لكل التاريخ الغربي تفسيراً بجمع حلقاته المتنوعة ومكوناته المتناثرة في إتجاه تحقيق الإنسان الغربي المسيطر على زمام الأمور.تكتسب اللغة عند هيدجر دوراً مفصلياً لا غنى عنه، فلكي نفهم الكينونة ونحدد إحداثياتها لا بد أن نرجع وحسب مبدأ الإحالة الفينومينولوجي إلى عنصرها الأصيل وهو الكائن، ذلك أن الكينونة، كما بلورها تحديداً في كتابه العمدة "الكينونة والزمان" ليست موضوعات جامدة أو أشياء تسبح خارج منظومة الزمان والتاريخ، بل إنها عبارة عن محطات أو "علامات" تحيل إلى مجموعة من الأوصاف يتلقف أثيرها الكائن عبر ملكته الأساسية المستقبلة وهي اللغة لينثرها ويحولها إلى دلالات ومعاني قصدية، مجازية لجهة أن لغة هيدجر تبطن أكثرها مما تفصح، وتلمح أكثر مما تصرح، بل إنها تتميز بخاصة محورية أخرى، فيما ترى صديقته الفيلسوفة آنا أرندت، وهي خاصية الاخاراق، فهيدجر لايفكر "في الشيء أو حول الشيء" ولكنه "يفكر الشيء ذاته" ما يمكنه من الغوص في أعماق مياه الكينونة الراكدة بعيداً عن كل تأمل أو استبطان، هذا الكائن الجديد هو "الدزاين" كائن اجتمعت فيه كل متناقضات الوجود فهو هنا ولكنه أيضاً هناك وهو كائن قلق ومهموم لكنه مطمئن إلى إنه يملك شيئاً واحدا ًوهو أنه موجود، وهو كائن مائت لكنه الموت الذي لا يغيبه عن الوجود لأن الحياة موت والموت أيضاً حياة كما يقول الشاعر هولدرلين في إحدى ترانيمه التي كتبها في سنوات جنونه الأخيرة، علمأً أن هولدرلين مكارس تأثيراً سحرياً على هيدجر لغة وفكراً، إذ يكفي أنه أنزل اللغة الشعرية أعلى مراتب الكينونة وجعل من الإنسان الشاعر أنموذج الكائن المدرك لوضعه، المتوثب لمستقبله وبخاصة ي كتاب "محاولات ومحاضرات".