قصر العروبة
تأليف
أنيس الدغيدي
(تأليف)
وضع الكاتب المصري القدير في هذه الرواية الغنية والمؤثّرة، خلاصة تجاربه الحياتية، فصرخ أوجاعه وشرّع مواقفه، وأعلن نقمته، ودان الأوضاع المتردية في المجتمع المصري الذي يعكس رغم خصوصيته، جملة مجتمعاتنا العربية، ففضح أسراره، واتهمه بحرقة الملّوع المحب: "-ليه هي مصر بتاكل ولادها يا بت يا جمالات؟!، أومأ شلضم في ...تأييد حزين:-يا ريت بتاكلهم بس يا صاحبي.. دي بتبيعهم وبتأجرهم مفروش وبتدبحهم كمان..".
"في حلكة طامسة وليل بهيم.. بين رعد مرتجس وبرق مختلس وماء منحبس..رعود جلجل قاصفة وريح حرجف عاصفة تعترك وريح صّرصر.."، بحبكة مدروسة ونفس طويل، وبأسلوب سلس وجذّاب، ولغة أدبية خالصة تتماشى جنباً إلى جنب مع اللغة المحكية الشعبية المصرية، لا لتعبّر عن الشرخ أو البعد بين النخبة والعامة، بل على العكس، لتخدم الموضوع والمغزى، الذي سيقرّب هذا من ذاك في علاقة وطيدة وضرورية وحتمية.
بطل الرواية "شلضم" "أتى إلى هذه الدنيا منذ خمسة وأربعين عاما عجافاً عبر نافذة الزمن الأليم.."، "قام بتعليم نفسه بنفسه"، حصل على دكتوراة في العلوم الذرية، وأخرى في القانون "منذ أكثر من عقد من الزمن ولم يجد مكاناً له على مكاتب الدولة أو كشوف العاملين بها، وقد أصابته لوثة سخرية، وقهقهة صاحبَتها حالات ضحك متكرر وحديث نفس مرتفع وهياج قريحة منفعل وهذيان عبارة مشتعل وانفلات إشارة متبرج ". "شلضم اتجنن"، وبات الأولاد يلاحقونه في الطرقات, و"إن شئت تحري الدقة في توصيفه فاجعله: "إماماً للمعدمين والمُعذبين في الأرض"، يعيش عيشة المشردين. لكن ذلك لا يمنع عنه إقامة علاقات نسائية، مع "الست نواعم" حرم العمدة، المعجبة بفتوته. بالرغم أنه يبحث عن امرأة جديدة يسهب الكاتب في وصفها المجيد الذي يخّزن فيه كل ما ترك التاريخ فيه من تأثير، فتاق إلى وجوده مجتمعاً: "امرأة لها حكمة بلقيس وسحر سليمان وعظمة كليوباترا ودهاء شجرة الدّر واندفاع جان دارك وثورية جميلة ودلال مارجريت جوتيه.."
يترك شلضم "بلدته دار الحيارى"، وداره الذي علق أعلى مدخله لافتة علقها بنفسه: "قصر العروبة.. الدكتور عبد القادر أبو العلا المصري"، متحدثاً مع نفسه: "-رايح في ستين داهية.. على مصر أم الدنيا. حذار أن تذهب إلى قصر العروبة بالفعل!!" "فماذا سيفعل هنا في القاهرة الكبيرة.. في العاصمة المزدحمة؟!" برفقة كلبه "فؤش أخويا وحبيبي وصاحبي باحكيله أسراري وبيفهمني وباحس معاه بالأمان وبافضفض له بكل همّي".
سيأويه "مصيلحي وأخته جمالات التي رأى فيها: "جميلة.. فتاة أحلامي التي تهاجمني في حلمي ونومي.."، ويجدا له عملاً وضيعاً في بيع "العرقسوس". قام بـ "مقارنة ظالمة ": جمالات قد امتلكت واستحكمت شتى كوامل الحسن والأخلاق بينما نواعم اتصفت بكل شوامل الخيانة والنفاق".
يختفي شلضم بعد أن تذيع جمالات قصته عبر التلفزيون بصفته "مثال للمصري الأصيل الضحية اللي بلده فرمته"، تشيع قصته وتستقبل بلدته "الوفود من كل صوب وحدب من رجال الإعلام.."
سارة حليم من وكالة أنباء أجنبية والبروفسور اللذان سينصبان بؤجة عمدة بعد قتل الأول، ثمناً لمعرفته المزعومة بمكان شلضم. وتظهر شركة أميركية تسعى لانتاج مشروب "جديد يفرقع ويسمع في العالم ويشوط كل المشروبات اللي ماشية في السوق.."، لتظهر "الآف الأطنان من زجاجات العرقسوس" في السوق، ليصيح المصيلحي:" كده يا أمريكا.. عملتيها؟!! خربتي بيتي وقعدتيني زي الولايا..يا ناس ده العرقسوس مشروب بلدي..بتاعنا..يلهفوه ويأمركوه ويصدّروه لنا في قزازيز؟!!".
يقول شلضم حين يواجه بؤجة: "مستحيل تتلاقى الأضداد.."، ويرفض عرض سارة المغري في الانضمام إليهم: "ح تعيش معانا اللي جاي من عمرك في نعيم وخلود وسعادة وثراء ويبقى لك اسم محفور في تاريخ أفضل علماء الدنيا وح نعطيك جايزة نوبل" ويقول: "عمر مصلحتي ما تبقى مع الشيطان.."، ويعود إلى مصيلح وجمالات وكلبه فؤش، وليبيع عرقسوس.
في مقابلة مع التلفزيون يفّسر الدكتور عبد القادر بعض أحواله ومواقفه، ويدخل في سرد حقائق ومعلومات عن أمريكا وتاريخها وزعمائها: "إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تصنع مجداً ذاتياً إلا بسواعد غير الأميركيين!!"
بعدها، يقرر شلضم تغيير نمط حياته، "- نعم سأغير نظام حياتي.. من حيث القائد والمقود.. هذا عن ثانيا.. أما ثالثاً.. فمفاجأة!!"
ما النظام الجديد الذي سيضعه شلضم لنفسه؟ وما التحولات الجذرية التي ستطرأ على تعامله، كي يحاول خدمة أفكاره وقضايا شعبه، وتحويل حقيقة الأوضاع؟ وهل سينجح في ذلك؟" لكن ما هو أكيد أنه سـ "يعود إلى كفر الحيارى ليبدأ من الأصل من الجذور.." "فمن هناك يبدأ حلم: العروبة. ثم يعود للمشاركة في حمل الراية. راية الشعب.. تحت القبة".
رواية شديدة التأثير والوقع، تسلط أضواء كاشفة على حلقات تركيبة مجتمعاتنا العربية، لتظهر الظلم والغبن والتلاعب والتحايل، فيخرج القارئ منها مدفوعاً برغبة التغيير الإيجابي، وممتلئاً بإمكانية عودة الآمال والأحلام الكبيرة الأصيلة التي لا تزال تعيش في قلوب وعقول أبناء مصر والعالم العربي.