العطر الفرنسي
كانت أكثر جملة تخطر ببالي بينما أقرأ الرواية: "كالذي يكذب الكذبة ويصدقها" مقولة يمكنك أن تسمعها حين يكذب أحدهم ويعيش في عباءة كذبته ويرتديها دون إدراك. لكنني في "العطر الفرنسي" كان خيالي يحيلها لتناسب البطل المسكين الذي "يحلم الحلم ويصدقه" وما أعز الفرق بين الحلم والكذبة، وإن كان الحلم أحياناً لا يتعدى كونه مجرد كذبة بمقاييس ناعمة مغرية.
علي جرجار (البطل الذي يطفو على السطح طول الرواية مضمراً ملايين الأبطال الذين هم ضمائر مستترة ليس في جوى الكاتب وحسب بل في تلافيف مخ الكلمات وثنايا القصة كاملة، الأحداث ضمائر مستترة، الشخوص كذلك، الأماكن، الأسماء... وكل ما في الرواية حتى غلافها.
في الصفحات الأولى تعثرت بجملة، أو لعلها هي من تعثرت بي، فأقامت في عقلي، ثم ألهمتني مقالاً كاملاً في جواب المسؤول عن سؤال جرجار (ما هو المطلوب من سكان الحي؟) حين رد قائلاً: "عيشوا حياتكم كما هي، فقط انتبهوا أن بينكم غريباً" وحين أكتب عن الرواية الآن بعد أن انتهيت من قراءتها وبينما أتذكر الجملة جيداً، فليس عن الجدوى ولا عن الأبعاد السياسية والاجتماعية أتحدث، إنما عن "جرجار" الذي لا أدري أهو حقيقي إلى هذه الدرجة، وإن كان فـ "يا إلهي!" صدقاً "يا للهوادة" أي جنون هذا!
ربما نكون نحن كعرب (وأعني الجزء – بل السواد - المسكين جداً من العرب، الجزء الحقيقي جداً، الذي يعيش بكامل وعيه على الفطرة، الناس الذين ربما يمثلون الأهم والأفضل رغم أنهم المسحوقون كما يبدي المشهد، ويخفي الغرض) ربما نكون متفائلين بالحلم زيادة، ربما نذهب عامدين إلى الخيال دوماً، لأننا فعلياً... حين نحلمُ، وحين نتخيل، نفعل ما لا نفعل دونهما. وليس السبب أبداً - كما يبدو لي - بؤس الحياة، وقلق الظروف، وظلام الطرق، أو قسوة الشقاء اليومي، وإنما السحر الخلاب في جدوى الخيال والحلم، طعم السحر في خبزهما، رشفة منهما كفيلة بضخ الدم في عروق الأمل الساري إلى الموت باستسلام شنيع ووداعة غبية.
وعلى العموم؛ فلست أستطيع أن أخفي اندهاشي من عنوان الرواية ولا من أحداثها الغريبة عن الاسم – على الأقل كما توقعت حين قرأت عنوانها – فأبعد ما يمكن أن تنثه فيّ رائحة العطر الفرنسي هو قصة عشق حية بطلها العطر كما دائماً، لكنه "أمير تاج السر" الذي يأتي بالقصص كأنها من بنيات خياله لتكون مدهشة، مفاجئة، غريبة، كبيرة على من هي مثلي، وأعني بمثلي: الفتاة التي تعيش الصراع بين انطلاق الجنون الذي لا أزال أعتقد أنه رفاهية لا أملك كل مفاتيحها، وبين قيد العقل الذي ابتلاني ببؤسه سواد المجتمع في عقلي الآيل للتمزق تحت وطأة صراع لا يرحم.
وطالما تساءلت عن أحداثها، كيف صدق جرجار حلمه إلى هذه الدرجة وتعايش معه، والأغرب هو كيف تفاعل الجيران وأهل الحي وربما السودان كله مع حلم جرجار، لكم أدهشني فعلاً أن أحداً لم يسخر، كيف حصل في بلاد العرب أن يُحترم الحلمُ، وتُحترمُ الرغبة، ويشار للخيال بالبنان أخيراً، كان حلم جرجار مشروعاً جداً وخيبته مكعبة، لكن يكفيه شرف الحلم، ومتعة الخيال حتى لو كان الموت آخر الأبواب، لأنه كذلك على أي حال.
المهم أنني اعتبرت هذه الرواية كنزاً عربياً سوادني الجنسية، والرائحة واللون، والخيال، والأخلاق، والجمال، والصفاء، والبياض، والبساطة، واللهجة، والثقافة، بات اليوم يحتل جزءاً من رفوف المكتبات العالمية، يحمل ثقافة يمكنها أن تشرّفنا (نحن العرب مرة أخرى) أينما وقعت وفي يد أي كان.