الغلس
تأليف
ماجد رشيد العويد
(تأليف)
في هذه الرواية ينشغل "العويد" بالواقع اليومي البسيط جداً لمدينة "الرقة" وضواحيها قبل أن تدخل الحداثة إليها. وراح يقرأ هذا الواقع من خلال مقاربة تاريخية – اجتماعية، فيدخلنا بيسر آخاذ إلى مفصل تاريخي مهم من تاريخ بلاده الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، لنشهد معه كيف تتولد فئات اجتماعية وأحداث ووقائع وتندثر ...أخرى.
يظل الروائي يتابع مسيرة أبطال روايته ليرينا من خلالهم طبيعة ذلك المجتمع البدائية والطيبة التي تتميز بنكهة خاصة تميزها عن المجتمع الحضري، نتعرف على هذه الميزة عندما نجد أن الترابط والتلاحم يبلغ أشده عند مرض "الشيخ حمود" سيد القبيلة وحاميها حيث تجتمع القبيلة للاطمئنان على صحته عندما يدخل في غيبوبة تامة وسبات عميق لا خروج منه، فهم يتمنون له الشفاء على رغم تاريخه المظلم، حيث كانت شخصية "الحجاج" مثله الأعلى "استهوته كثيراً القصص التي قرأها عن الحجاج، وكثيراً ما تمثل شخصيته (...) القوة والجبروت فيه".
"ذات يوم أمر الشيخ حمود رجاله فأمسكوا بأحد معارضيه، عروه ثم قيدوه (...) وربط البارود بفتيل ثم أشعلوه، ابتعدوا عنه مسافة عشرين متراً، ثم ما لبث أن أمر بتفجيره (...) أقيمت حفلة التفجير هذه أمام الناس، لم يردعه أحد منهم، ولا حتى الفرنسي فعل شيئاً (...) بعد هذه الحادثة أخذ يمشي مختالاً، ثم جعل على عقاله ريشة طاووس مقلداً بها ملوك أول الزمان، كان الناس على الجانبين يفرون من حوله مذعورين، ومن يبقى منهم ينحني له توقيراً".
إن "العويد" في روايته هذه لا يكتفي عند حدود الكشف الواقعي، والتناقضات التاريخية والاجتماعية، والاقتصادية وحسب. بل يعمل أيضاً على أن يغوص في تحليلات سياسية وجوهرية للعملية الزمنية وصيرورة الحياة ودورانها، وانعطافاتها وخلود عناصرها الأساسية، فالقوى الكبرى والحرب الدائرة وما يسمعه الناس وما يعرفونه عنها لا يتعدى ما يسمعونه من نشرات أخبار، وما يسألونه لـ "هلال" الشخصية المحورية في الرواية الدجال الذي ينسج لهم حكايات عن الجن والاعتقاد بتحكمهم بأمور الطبيعة وأحوال الناس من منطلق ما ورائي غيبي ممّا يدل على اختراق المتخيل الديني عقول الناس حيث الجن قابع في ذهنية القرويون الذين يطيب لهم سماع المزيد عن مغامراته "قل لي يا هلال هل صاحبتك الجنية ما تزال تأتيك؟ (...) وهل هي من الجن الرحماني يا هلال؟".
مفاجآت كثيرة تحملها هذه الرواية الممتعة والمؤثرة في آن معاً، ينقل لنا الكاتب من خلال ما يدور في خضمها من أحداث إشكاليته الخاصة لتلك القيم والأخلاق وتحليله النقدي والجذري لمراحل تطور المجتمعات منذ عصر ما قبل الحداثة وصولاً إلى حاضرنا المقلق الذي نحياه، مغلفاً عباراته بتأويلات مستبطنة ليكشف للقارئ صفحات من ماضٍ ولى، وحاضر ما يزال يحتضر.