المكان وعناصر العمارة في رواية "طقس حار"
الحسن بكري
لأكثر قرائها وربما لبعض نقادها تستوفي الرواية شرطها الخيالي بالأساس على مستوى الأحداث. وحتى الأحداث نفسها ينبغي أن تتفق غالبا مع تجاربنا وذكرياتنا وتواريخنا. لكن ماذا عن المكان والشخوص أو حتى الأزياء والديكور، وأقصى من ذلك، المعمار أو البنية؟ ظلت رواية جوناثان سويفت "رحلات جلفر" عملا ذا قيمة هائلة من ناحية موضوعاتها لولا أنها كانت مربكة لمدارس النقد التقليدي في أبعادها الأخرى المتصلة باستغراقها في خيالية أحداثها وأماكنها وشخوصها، فيتم إلى الآن تصنيفها فانتازيا وكفى وليس رواية. وإلى عهد قريب، تبقّت أثيرة لدى مصممي مناهج القراءة التعليمية المخصصة للأطفال كأي حكاية ينسجها خيال الجدات في ليالي الشتاء الباردة الطويلة . لن تحدث الطفرة الهائلة على كافة مستويات قراءات وتأويلات أشباهها من الروايات بظني إلا بعد "مائة عام من العزلة" ، رواية جبريل جارسيا ماركيز إذ أتى الاقرار أخيرا بهذا الضرب الذي مزج، بشكل غاية في الابتداع والجرأة، الواقعي المطابق لحيثيات الخبر بالخيالي النقيض لشروط المنطق مما حمل على تصنيفه بالواقعية السحرية لشذوذ مخالفته لنواميس المألوف.
سأحاول فيما يلي استعراض بعض ما ورد في رواية "طقس حار" من مشاهد وما استخدم بها من تقنيات في وصف عمارة المكان وما يليه من وصف الأبنية والأزياء والزينة والأثاث والسلاح والأطعمة والأشربة وسواها. سيتم التركيز على احتذاء هذه العناصر لنماذج الواقع أو لاتخاذها الواقع نفسه نماذج تتم مفارقتها الأمر الذي يحقق للرواية أحيانا وصفها كعمل خيالي يتناص مع خبرات المتلقي في استقرائه وتفسيره للواقع رغم أنه لا يتطابق معها بالإطلاق. وفي أحيان أخرى تخالف المشاهد والتقنيات الواقع بالمرة بينما تظل غواية إسقاطها على ما اجتمع لدى القارئ من صور وأحداث وتجارب واردة على الدوام.
واحدة من الثيمات الأساسية للرواية تتعلق بالأثر السلبي الذي أحدثه تشييد مشروع الجزيرة، وهو الفضاء السردي الغالب الذي تجري فيه الأحداث، على بيئة المنطقة التي قام عليها المتمثلة في الأراضي السهلية الشاسعة الخصيبة الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض وكان يطلق عليها "الهوج" قبل إنشاء المشروع. تأثر الصرف الطبيعي لمياه الأمطار فأمست الترع بمثابة سدود عالية تحول دون انسياب المياه صوب النهرين الكبيرين، الأزرق والأبيض، بما يحوّل المنطقة كلها إلى برك راكدة متصلة تعوق الحركة وتؤدي إلى توالد الناموس فانتشار الأوبئة. أدت الترع أيضا إلى استحداث أسقام لم تكن معروفة كالبلهارسيا وقطّعت السبل السالكة التي وصلت بين القرى والبلدات عبر مساحات المشروع. كذلك انقرضت الحياة البرية الغنية التي استوطنت الهوج لآلاف السنين بينما تم تجريف منتظم للتربة بسبب الري الصناعي المتواصل والزراعة الكثيفة ففقدت كثيرا من خصوبتها الفطرية.
يقوم التقسيم الإداري لمشروع الجزيرة على أقسام كبيرة تحتوي على أقسام أصغر تسمى التفاتيش، مفردها تفتيش. في مفتتح الفصل الثاني للرواية، طقس حار، يقول الراوي:
"هيف ونورية أخذتا طريقهما إلى غابة البان الكبيرة في "نمرة عشرين"، ترعة كلتوما الدود، تفتيش نديانة. الوقت ضحى والقمري يسجع فوق شجرة الطلح بنوارها فائح الشذى بفعل حرارة شمس الدرت. ثمة ملاحظة عشق مكتوبة على جذعها بلغة الهوسا بخط رقعة رديء " تحتوي هذا الجملة على وصف يوافق طبيعة وجغرافية المكان في مشروع الجزيرة. حتى ستينيات القرن الماضي اهتمت الإدارة بتخصيص مساحات محدودة لزراعة غويبات أشجار البان، ربما للاحتفاظ للمنطقة ببعض طبيعتها ولتعويض جزء قليل مما فقدته من غابات وكذا لقطع سيقان البان دوريا لبيعها بأثمان مناسبة للمزارعين لاستخدامها في تشييد المساكن أو الوقود. يتم ترقيم كل مجموعة مزارع بأرقام وتسمى المجموعة نمرة. النص هنا يهدف إلى الاحتفاء مباشرة بسيدة رائدة أسمها فاطمة الدود، وإن أطلق عليها إسم كلتوما، ربما للاحتفاظ للنص بحيدته الفنية. الاسم خيالي من جهة ثانية لأنه لا يحدث عادة تسمية الترع بأسماء الأشخاص لكن الكاتب عمد للإشارة إلى تلك السيدة التي رفدت طفولته بمشاهد ومواقف عظيمة فهذه السيدة ظلت لسنوات عديدة من أكثر المزارعين همة وإنتاجا وشهرة في تفتيش ودسلفاب، قسم ودحبوبة، وفاقت زملاءها الرجال في الجدّية والعزم وفي التصدي للحقوق النقابية. وبينما "نديانة" هو اسم لبلدة حقيقية من بلدات المشروع لكنه ليس اسما لتفتيش. من ناحية أخرى فإن رموز الحب، القلب الذي يخترقه السهم والحروف الأولى للمحبين، التي تنقش على لحاء الشجر وترسم على جدران الأبنية من الخارج، هي ممارسة رومانسية واسعة الانتشار، أما أن تكون الكتابة بلغة الهوسا فهذا من بنات الخيال المحض إنما يظل الوجود الكثيف والفعال لقبيلة الهوسا إحدى سمات الجزيرة السكانية الملموسة. أهالي الجزيرة سيمكنهم تمييز الجسور الصغيرة الجميلة، بأحجارها الوردية وأنابيبها الحديدية الهائلة، التي ترد في النص وهي تُتخذ معابر للترع وللسيطرة على تدفق مياه الري. لكن عندما يتعلق الأمر بجسور بعينها ترد في الرواية ، "كبري ود بشير ... كبري علي حامد" فسيكتمل تطابق الوقائع مع ذكريات وتجارب قراء معدودين من قاطني تفتيش ودسلفاب من أجيال الخمسينيات والستينيات وما قبلهما ممن عاصروا هذين الجسرين بإسميهما المعروفين.
يجرى أحيانا دمج الماضي الطبوغرافي والبيئي للجزيرة بحاضرها في إشارة للخراب الذي حل بالحياة البرية:
"تلك هي عظاياتي وذاك هو نحلي. البلاد بين غابة بلول مرورا ببصيلاب وحتى نديانة وغربا إلى مشارف جويلي وغابة قوز كبرو بأشجارها الباسقة الفتية وتلك المعمرة، بعاشيمها، ثعالبها، أرانبها، جماعات نحلها، عائلات القمري والجرول والعظايات، التي أقامت هنا لمئات السنين أو ربما آلافها، ثم طيور الرهو الرشيقة، النفور وأسراب البليبلي البيضاء المهاجرة، هذه وغيرها كلها ملك يميني."
بحلول السبعينيات وما بعدها من القرن الماضي، أمست مثل هذه الحياة المفعمة بالجمال الفطري شيئا من الماضي. تم تهجير كامل لقرية نديانة مما يذكر بقصيدة أوليفر جولد اسميث الجميلة "القرية المهجورة" التي ينعي بها الشاعر ريف أيرلندا حيث مراتع طفولته إضافة إلى الأصقاع التي سافر إليها في ريف إنجلترا والتي هلكت بقيام الثورة الصناعية. غابة قوز كبرو، وهي واحدة من غابات قليلة صمدت لسنوات عديدة بعد قيام المشروع، جرى قطعها بالكامل في السبعينيات والثمانينيات. أما الحيوانات البرية فقد انقرضت. كان بوسع الناس في الستينيات الحديث عن ثعالب وسنانير برية كبيرة تتجول في الأراضي البور والغويبات وشوهدت العظايات تزحف بالمئات والي اليوم توجد بلدات لها أسماء حيوانات برية اختفت تماما الآن مثل قرية البعاشيم وحلة أم أصلة.
تضطرد الإشارات إلى التخريب الذي حل بسبب إنشاء المشروع الزراعي:
"لما انقضت عينة السماك ولاحت طلائع الشتاء، بردت الأسحار وهبت رياح الأسافل، قصدت المسلمية فاكتريت ناقة بشارية وتوجهت إلى الصعيد الأوسط، جهات جبل موية، حيث اتجهت جدية. سألتقيها هناك وستلتحق بنا الجنوبية، أبوك. على مدى الطريق، سألحظ تدهور الأحوال. تتصاعد أصوات الجرارات ماركة ماسي فيرجسون، تتطاول الترع، وتزال الغابات والأجمات. رأيت حيواناتي وطيور في أسوأ حال، أكثرها أصابه الهزال وبعضها قلت أعداده والبعض انقرض أو كاد. "
الراوي، وهو البطل أيضا، يقيم علاقة وثيقة مع الطبيعة وعلى مدى النص الروائي يتضح عمق العلاقة بين شخوص الرواية ومفردات المكان. ثم بقدر ما تختلق الرواية وصفا "سحريا" للمكان والزمان والشخوص وتبتعد عن الواقع، بقدرما تحقق بعض صدقيتها كعمل تخييلي يقترب من ذلك الواقع ليس بإحداثياته المشهودة بل على نحو يستوحي ما وقر في النفوس من أحلام وخيالات وهلوسات وذكريات. يقول الراوي عن حبيبتيه جيجي وأبوك:
"جيجي في طيرانها تسجع، تقلد القماري:
- قوق، قوق، قوق.
أراها في إدبارها، منقلبة من ناحية الشمس، فأحس بالامتنان نحوها. هي دائما سباقة في الأخذ بيدي.....تسعد أبوك بجيجي الساجعة فتجذب أنفاسا عميقة من غليونها ثم تشمر عن ساعديها وتدلك عمودي الفقري، من عنقي حتى عصعصي وتشرع في تسليتي بإلقاء جمل تصف واقع حالها.."
عاديٌ اختراق جيجي للنوع هنا فالبطل يهذي بفعل احدى نوبات احتضاره فيما تظل البيئة هي نفسها، يتماهى الشخوص معها بحواسهم وذكرياتهم ويجري الحدث بواقعيته الجلية وبحيزه المحدد بوحداته المعتادة أثناء هلوسات البطل المغرقة في ابتعادها عن ذلك الواقع.
أما الديكور والأثاث والزينة في الرواية فتمثل امتدادا وثيق الصلة بعمارة المكان ويتراوح بين الطرز المجلوبة من الخارج وتلك المصنوعة محليا. البطل من عمّر طويلا فعاش من بدايات القرن العشرين ليظل حيا حتى نهاية أحداث الرواية التي وقع بعضها في التسعينيات وما بعدها ينتمى إلى الطبقة الوسطى المتعلمة، فهو بزعمه درس وتخرج من كليتين في غردون التذكارية كما أنه قارئ مثقف إذ يشير في متن الرواية إلى بعض أعمال شكسبير وكولردج ورامبو وأبي ماضي. لذلك يبدو ممكنا احتواء مسكنه على أثاث مستورد يناسب مرحلة وقوع الأحداث. إلى ذلك فالبطل وصديقاته ذوو مهارات تشكيلية جيدة. أما سرير"عنقريب المخرطة" فهو قطعة أثاث ما كانت تخلو منها غرفة زوجين في بدايات القرن العشرين وحتى منتصفه بل ربما استمر مستخدما حتى الستينيات وما بعدها بقليل خاصة في أرياف السودان الأوسط وما حولها:
".... نشيد دارا صغيرة في توريلة، أطلق عليها البدري حسن اسم "بيت الزنبور"، نعرض بها أدوات الطيران والآلات الموسيقية وأواني خزفية عتيقة وصواني نحاس وأباريق تاريخية ورثنا بعضها واشترينا بعضها. أيضا نعلق على الجدران الصور والرسوم ولوحات الخط العربي الرائعة والتماثيل التي تفننتُ بصحبة عشيقاتنا وأصحابنا في ابتداعها. سنضع سرير "عنقريب مخرطة" هائل ومتقن الصنعة مفروش بمرتبة قطن يغطيها برش سعف دقيق النسج وملون بألوان تفتا زاهية، في الجانب الجنوبي من غرفة النوم الكبيرة حيث يتيح هذا الوضع تلقي تهوية جيدة بفضل الانسياب التلقائي لرياح الصيف. سيشهد هذا "العنقريب سلسلة لا تنقطع من غزوات الغرام تستمر لما يقارب المائة عام..."
يرد مثل هذا الوصف لترتيب الأثاث وتنسيق الزينة في مواضع أخرى مختلفة بالرواية:
"ووجدت الوقت والمزاج لمشاهدة أوانيَّ العتيقة التي جلبها البدري ورتبتها صويحباتي، نورية، وهيف، وجدية، وجيجي. الصينية التركية الكبيرة علقنها على الحائط، مواجهة للداخلين، فوق سرير المخرطة، والصواني الشامية التاريخية، صناعة دمشق على سنوات تشييد قصر العظم، وضعنها على حاملات نجرنها من خشب التيك الجنوبي البديع، المتين، وفرقنها بحرفة وفن على يسار ويمين النافذتين. أما صحون الصيني الكبيرة، وأباريق النحاس الأصفر المصرية، وارد خان الخليلي، فقد وزعنها بمهارة وحذاقة فما شرخن هيبة الأمكنة ولا ابتذلن تناغم المساحات"
تتداخل الصور أحيانا لتحتوي على عناصر مختلفة تتعلق بمعمار المكان وعناصر الزينة ويتوالى هذا المزيج الذي يأخذ من الحياة ليضيف للابتداع أو يفعل العكس بأن يبتدع ما يضيف إلى الحياة الحقة المعهودة. الرواية تأخذ من التاريخ ومن الواقع بنيتهما ولكنها لا تمثلهما. إنها تسعى حثيثا لاختلاق تاريخها هي ومفردات واقعها هي:
"نورية التي كانت تتسلل إليّ في "بيت الزنبور"، حاولت تطبيبي فحفرت حفرة دخان وجلبت لها حطب سلم، فضلا عن الشاف والطلح، مدعية أنه أفيد في مثل حالاتي، ثم عرضتني إلى حمامات دخان ساخن، وأمست تدلكني بزيت السمسم المفتوق بعطور السرتية وبالدلكة السودانية. أدى ذلك إلى تكثيف شهوتي فقط، فتعاشرنا ساعات طويلة عدة مرات كل يوم، لكن شدة أرقي لم تتضعضع"
يستمر هذا المزج بين الخيالي والواقعي على مستوى المكان والديكور وأدوات الزينة على مدى المتن الروائي. يغلب أحيانا الوصف الفنتازي حتى ليقترب من مفارقة شواهد الواقع وهذه تقنية في السرد روّج لها ماركيز كما أسلفنا، ولكن الكاتب يعتمد أيضا على أرشيف ثري من الحكايات الشعبية المحلية التي يمتزج ويتطابق فيها السحري بالواقعي على كافة مستويات السرد. يغادر الفضاء السردي الجزيرة أحيانا فتتم الإشارة لأماكن أخرى كما في هذا المقتطف من الفصل الخامس حيث تشرع إحدى شخصيات الرواية في التحول إلى طائر:
"معتمدة على قنطار من صوف المعزى الجبلية المهرب عبر الحدود من إثيوبيا ونصف زكيبة قطن قصير التيلة وارد جبال النوبة وبضع كلاليق سعف من الشمالية تم جلبها خصيصا من الأراك وناوة، نسجت جيجي ريشها. استعانت بأدوات نسج محلية؛ غوغايات ومتارير من الجزيرة ومناسج من النوراب وبحر أبيض ومخارز، إشفات، مسلات وقداديم من البطانة. ابتاعت حجارة مسن، سكاكين، مراحيك وتفتا من تمبول. أيضا تطّلع على تجارب وثقتها كتابة محاربة مقدامة اسمها الرضية حسين الطاهر، تحولت في شبابها إلى نعامة سعيا لاستمالة قلب ظليم أليف مجلوب من دارفور"
الإشارة في آخر الاقتباس أعلاه إلى الرضية حسين الطاهر والظليم تتناص مع وقائع رواية أخرى للكاتب نفسه هي "أحوال المحارب القديم" . وفي الروايتين تتحول شخصيتان أساسيتان إلى طائرين وفي كلتا الحالتين تستخدم مادة التفتا المحلية كوسيلة للتلوين والزينة كما هو الحال لدى الحرفيات صابغات الأزياء وناسجات البروش والأطباق والسلال في أرياف السودان المختلفة. تتواتر هذه المهارات في التنقل بين الحلم والحقيقة على مدى فصول الرواية وتوالي جيجي الغدو والرواح بين هذين البعدين بانتظام فيتهيأ المسرح لتمرير هذه التقنية السردية لتسقط الأحلام على الوقائع والهواجس على الذكريات دون كلل. سوى أن الرواية لا تركن أبدا للتحليق في هذه الفضاءات الساحرة وحدها، إذ سرعان ما تعود للأرض وللتاريخ حيث يحتدم الصراع الأزلي بين الخير والشر:
"تباغتنا مسرة غامرة ونبدو كأننا نركض بخفة مغادرين العباسية حيث بدأ الشقاق يعصف بحزبنا. تقذفنا ذكرياتنا فوق جسر النيل الأبيض الجديد ونمضي ماشيين عابرين. وقتها كان النيل الأبيض في أوج فيضانه الخريفي البديع فغمر الضفاف حتى أغرق الجزيرة على يساره"
الأطعمة والأشربة يتسق فن طهوها ومزجها مع التقنيات التي تتخذها طقس حار في المزاوجة بين الوقائع والخيالات وكذلك الأمر فيما يخص السلاح، فترد المدافع والبنادق والأقواس والسهام. جيجي "تبتكر ...أمزجة ومحاليل أعشاب...قالت أن بعض ضروب مبارزات القسي تتضمن صراعا نوبيا ......أو حتى صقرية بالرماح الطويلة. غدوت أشرب لبنا قليلا ....شجعتني على استبدال لحوم الضأن السمينة بلحوم الدجاج وسمك الكجيك المجفف وارد سنار.....وضمنت طعامي شوربات خضار مشكل وبصل وجهزت طبخات خالية من اللحوم تعتمد على الملوخية، الويكة، السبروق، البامبي، العدس، الكداد وأم تكشو. كذا أعدت سلطات موليته بالفول الدكوة وشطة القبانيت الصعيدية الحارقة والبصل الأبيض الكسلاوي" وفي فصل سابق نقرأ كيف كان "أبو القاسم هائجا يحمل بندقية طراز جيم ثري، عقبها مصطبغ بالدم" كما يرد وصفا خياليا للمعركة التي خاضها ثوار ثورة أربع وعشرين ضد المستعمر الإنجليزي وكيف حارب عبد الفضيل الماظ حتى آخر رمق.
هذا المقال قدم شرحا مختصرا مشفوعا بالاقتباسات للطريقة التي عالجت بها رواية "طقس حار" المكان وعمارته ومايليها من ديكور وزينة وعناصر أخرى تتعلق بالبيئة الطبيعية للحيز الجغرافي التي تجري فيه أحداث الرواية. بيّن أيضا أن جموح الخيال في الرواية لا يقتصر على الوقائع وتفاصيل الأحداث، بل يمتد ليشمل المكان وعمارته وتاريخه فيمتزج في الرواية واقع تلك الجغرافيا وماضيها بأبعاد خيالية لا سند لها في الواقع غير السند السردي الذي تتبناه التقنيات المختلفة التي أنجز بها المتن الروائي.
المكان وعناصر العمارة في رواية "طقس حار"
الحسن بكري
لأكثر قرائها وربما لبعض نقادها تستوفي الرواية شرطها الخيالي بالأساس على مستوى الأحداث. وحتى الأحداث نفسها ينبغي أن تتفق غالبا مع تجاربنا وذكرياتنا وتواريخنا. لكن ماذا عن المكان والشخوص أو حتى الأزياء والديكور، وأقصى من ذلك، المعمار أو البنية؟ ظلت رواية جوناثان سويفت "رحلات جلفر" عملا ذا قيمة هائلة من ناحية موضوعاتها لولا أنها كانت مربكة لمدارس النقد التقليدي في أبعادها الأخرى المتصلة باستغراقها في خيالية أحداثها وأماكنها وشخوصها، فيتم إلى الآن تصنيفها فانتازيا وكفى وليس رواية. وإلى عهد قريب، تبقّت أثيرة لدى مصممي مناهج القراءة التعليمية المخصصة للأطفال كأي حكاية ينسجها خيال الجدات في ليالي الشتاء الباردة الطويلة . لن تحدث الطفرة الهائلة على كافة مستويات قراءات وتأويلات أشباهها من الروايات بظني إلا بعد "مائة عام من العزلة" ، رواية جبريل جارسيا ماركيز إذ أتى الاقرار أخيرا بهذا الضرب الذي مزج، بشكل غاية في الابتداع والجرأة، الواقعي المطابق لحيثيات الخبر بالخيالي النقيض لشروط المنطق مما حمل على تصنيفه بالواقعية السحرية لشذوذ مخالفته لنواميس المألوف.
سأحاول فيما يلي استعراض بعض ما ورد في رواية "طقس حار" من مشاهد وما استخدم بها من تقنيات في وصف عمارة المكان وما يليه من وصف الأبنية والأزياء والزينة والأثاث والسلاح والأطعمة والأشربة وسواها. سيتم التركيز على احتذاء هذه العناصر لنماذج الواقع أو لاتخاذها الواقع نفسه نماذج تتم مفارقتها الأمر الذي يحقق للرواية أحيانا وصفها كعمل خيالي يتناص مع خبرات المتلقي في استقرائه وتفسيره للواقع رغم أنه لا يتطابق معها بالإطلاق. وفي أحيان أخرى تخالف المشاهد والتقنيات الواقع بالمرة بينما تظل غواية إسقاطها على ما اجتمع لدى القارئ من صور وأحداث وتجارب واردة على الدوام.
واحدة من الثيمات الأساسية للرواية تتعلق بالأثر السلبي الذي أحدثه تشييد مشروع الجزيرة، وهو الفضاء السردي الغالب الذي تجري فيه الأحداث، على بيئة المنطقة التي قام عليها المتمثلة في الأراضي السهلية الشاسعة الخصيبة الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض وكان يطلق عليها "الهوج" قبل إنشاء المشروع. تأثر الصرف الطبيعي لمياه الأمطار فأمست الترع بمثابة سدود عالية تحول دون انسياب المياه صوب النهرين الكبيرين، الأزرق والأبيض، بما يحوّل المنطقة كلها إلى برك راكدة متصلة تعوق الحركة وتؤدي إلى توالد الناموس فانتشار الأوبئة. أدت الترع أيضا إلى استحداث أسقام لم تكن معروفة كالبلهارسيا وقطّعت السبل السالكة التي وصلت بين القرى والبلدات عبر مساحات المشروع. كذلك انقرضت الحياة البرية الغنية التي استوطنت الهوج لآلاف السنين بينما تم تجريف منتظم للتربة بسبب الري الصناعي المتواصل والزراعة الكثيفة ففقدت كثيرا من خصوبتها الفطرية.
يقوم التقسيم الإداري لمشروع الجزيرة على أقسام كبيرة تحتوي على أقسام أصغر تسمى التفاتيش، مفردها تفتيش. في مفتتح الفصل الثاني للرواية، طقس حار، يقول الراوي:
"هيف ونورية أخذتا طريقهما إلى غابة البان الكبيرة في "نمرة عشرين"، ترعة كلتوما الدود، تفتيش نديانة. الوقت ضحى والقمري يسجع فوق شجرة الطلح بنوارها فائح الشذى بفعل حرارة شمس الدرت. ثمة ملاحظة عشق مكتوبة على جذعها بلغة الهوسا بخط رقعة رديء " تحتوي هذا الجملة على وصف يوافق طبيعة وجغرافية المكان في مشروع الجزيرة. حتى ستينيات القرن الماضي اهتمت الإدارة بتخصيص مساحات محدودة لزراعة غويبات أشجار البان، ربما للاحتفاظ للمنطقة ببعض طبيعتها ولتعويض جزء قليل مما فقدته من غابات وكذا لقطع سيقان البان دوريا لبيعها بأثمان مناسبة للمزارعين لاستخدامها في تشييد المساكن أو الوقود. يتم ترقيم كل مجموعة مزارع بأرقام وتسمى المجموعة نمرة. النص هنا يهدف إلى الاحتفاء مباشرة بسيدة رائدة أسمها فاطمة الدود، وإن أطلق عليها إسم كلتوما، ربما للاحتفاظ للنص بحيدته الفنية. الاسم خيالي من جهة ثانية لأنه لا يحدث عادة تسمية الترع بأسماء الأشخاص لكن الكاتب عمد للإشارة إلى تلك السيدة التي رفدت طفولته بمشاهد ومواقف عظيمة فهذه السيدة ظلت لسنوات عديدة من أكثر المزارعين همة وإنتاجا وشهرة في تفتيش ودسلفاب، قسم ودحبوبة، وفاقت زملاءها الرجال في الجدّية والعزم وفي التصدي للحقوق النقابية. وبينما "نديانة" هو اسم لبلدة حقيقية من بلدات المشروع لكنه ليس اسما لتفتيش. من ناحية أخرى فإن رموز الحب، القلب الذي يخترقه السهم والحروف الأولى للمحبين، التي تنقش على لحاء الشجر وترسم على جدران الأبنية من الخارج، هي ممارسة رومانسية واسعة الانتشار، أما أن تكون الكتابة بلغة الهوسا فهذا من بنات الخيال المحض إنما يظل الوجود الكثيف والفعال لقبيلة الهوسا إحدى سمات الجزيرة السكانية الملموسة. أهالي الجزيرة سيمكنهم تمييز الجسور الصغيرة الجميلة، بأحجارها الوردية وأنابيبها الحديدية الهائلة، التي ترد في النص وهي تُتخذ معابر للترع وللسيطرة على تدفق مياه الري. لكن عندما يتعلق الأمر بجسور بعينها ترد في الرواية ، "كبري ود بشير ... كبري علي حامد" فسيكتمل تطابق الوقائع مع ذكريات وتجارب قراء معدودين من قاطني تفتيش ودسلفاب من أجيال الخمسينيات والستينيات وما قبلهما ممن عاصروا هذين الجسرين بإسميهما المعروفين.
يجرى أحيانا دمج الماضي الطبوغرافي والبيئي للجزيرة بحاضرها في إشارة للخراب الذي حل بالحياة البرية:
"تلك هي عظاياتي وذاك هو نحلي. البلاد بين غابة بلول مرورا ببصيلاب وحتى نديانة وغربا إلى مشارف جويلي وغابة قوز كبرو بأشجارها الباسقة الفتية وتلك المعمرة، بعاشيمها، ثعالبها، أرانبها، جماعات نحلها، عائلات القمري والجرول والعظايات، التي أقامت هنا لمئات السنين أو ربما آلافها، ثم طيور الرهو الرشيقة، النفور وأسراب البليبلي البيضاء المهاجرة، هذه وغيرها كلها ملك يميني."
بحلول السبعينيات وما بعدها من القرن الماضي، أمست مثل هذه الحياة المفعمة بالجمال الفطري شيئا من الماضي. تم تهجير كامل لقرية نديانة مما يذكر بقصيدة أوليفر جولد اسميث الجميلة "القرية المهجورة" التي ينعي بها الشاعر ريف أيرلندا حيث مراتع طفولته إضافة إلى الأصقاع التي سافر إليها في ريف إنجلترا والتي هلكت بقيام الثورة الصناعية. غابة قوز كبرو، وهي واحدة من غابات قليلة صمدت لسنوات عديدة بعد قيام المشروع، جرى قطعها بالكامل في السبعينيات والثمانينيات. أما الحيوانات البرية فقد انقرضت. كان بوسع الناس في الستينيات الحديث عن ثعالب وسنانير برية كبيرة تتجول في الأراضي البور والغويبات وشوهدت العظايات تزحف بالمئات والي اليوم توجد بلدات لها أسماء حيوانات برية اختفت تماما الآن مثل قرية البعاشيم وحلة أم أصلة.
تضطرد الإشارات إلى التخريب الذي حل بسبب إنشاء المشروع الزراعي:
"لما انقضت عينة السماك ولاحت طلائع الشتاء، بردت الأسحار وهبت رياح الأسافل، قصدت المسلمية فاكتريت ناقة بشارية وتوجهت إلى الصعيد الأوسط، جهات جبل موية، حيث اتجهت جدية. سألتقيها هناك وستلتحق بنا الجنوبية، أبوك. على مدى الطريق، سألحظ تدهور الأحوال. تتصاعد أصوات الجرارات ماركة ماسي فيرجسون، تتطاول الترع، وتزال الغابات والأجمات. رأيت حيواناتي وطيور في أسوأ حال، أكثرها أصابه الهزال وبعضها قلت أعداده والبعض انقرض أو كاد. "
الراوي، وهو البطل أيضا، يقيم علاقة وثيقة مع الطبيعة وعلى مدى النص الروائي يتضح عمق العلاقة بين شخوص الرواية ومفردات المكان. ثم بقدر ما تختلق الرواية وصفا "سحريا" للمكان والزمان والشخوص وتبتعد عن الواقع، بقدرما تحقق بعض صدقيتها كعمل تخييلي يقترب من ذلك الواقع ليس بإحداثياته المشهودة بل على نحو يستوحي ما وقر في النفوس من أحلام وخيالات وهلوسات وذكريات. يقول الراوي عن حبيبتيه جيجي وأبوك:
"جيجي في طيرانها تسجع، تقلد القماري:
- قوق، قوق، قوق.
أراها في إدبارها، منقلبة من ناحية الشمس، فأحس بالامتنان نحوها. هي دائما سباقة في الأخذ بيدي.....تسعد أبوك بجيجي الساجعة فتجذب أنفاسا عميقة من غليونها ثم تشمر عن ساعديها وتدلك عمودي الفقري، من عنقي حتى عصعصي وتشرع في تسليتي بإلقاء جمل تصف واقع حالها.."
عاديٌ اختراق جيجي للنوع هنا فالبطل يهذي بفعل احدى نوبات احتضاره فيما تظل البيئة هي نفسها، يتماهى الشخوص معها بحواسهم وذكرياتهم ويجري الحدث بواقعيته الجلية وبحيزه المحدد بوحداته المعتادة أثناء هلوسات البطل المغرقة في ابتعادها عن ذلك الواقع.
أما الديكور والأثاث والزينة في الرواية فتمثل امتدادا وثيق الصلة بعمارة المكان ويتراوح بين الطرز المجلوبة من الخارج وتلك المصنوعة محليا. البطل من عمّر طويلا فعاش من بدايات القرن العشرين ليظل حيا حتى نهاية أحداث الرواية التي وقع بعضها في التسعينيات وما بعدها ينتمى إلى الطبقة الوسطى المتعلمة، فهو بزعمه درس وتخرج من كليتين في غردون التذكارية كما أنه قارئ مثقف إذ يشير في متن الرواية إلى بعض أعمال شكسبير وكولردج ورامبو وأبي ماضي. لذلك يبدو ممكنا احتواء مسكنه على أثاث مستورد يناسب مرحلة وقوع الأحداث. إلى ذلك فالبطل وصديقاته ذوو مهارات تشكيلية جيدة. أما سرير"عنقريب المخرطة" فهو قطعة أثاث ما كانت تخلو منها غرفة زوجين في بدايات القرن العشرين وحتى منتصفه بل ربما استمر مستخدما حتى الستينيات وما بعدها بقليل خاصة في أرياف السودان الأوسط وما حولها:
".... نشيد دارا صغيرة في توريلة، أطلق عليها البدري حسن اسم "بيت الزنبور"، نعرض بها أدوات الطيران والآلات الموسيقية وأواني خزفية عتيقة وصواني نحاس وأباريق تاريخية ورثنا بعضها واشترينا بعضها. أيضا نعلق على الجدران الصور والرسوم ولوحات الخط العربي الرائعة والتماثيل التي تفننتُ بصحبة عشيقاتنا وأصحابنا في ابتداعها. سنضع سرير "عنقريب مخرطة" هائل ومتقن الصنعة مفروش بمرتبة قطن يغطيها برش سعف دقيق النسج وملون بألوان تفتا زاهية، في الجانب الجنوبي من غرفة النوم الكبيرة حيث يتيح هذا الوضع تلقي تهوية جيدة بفضل الانسياب التلقائي لرياح الصيف. سيشهد هذا "العنقريب سلسلة لا تنقطع من غزوات الغرام تستمر لما يقارب المائة عام..."
يرد مثل هذا الوصف لترتيب الأثاث وتنسيق الزينة في مواضع أخرى مختلفة بالرواية:
"ووجدت الوقت والمزاج لمشاهدة أوانيَّ العتيقة التي جلبها البدري ورتبتها صويحباتي، نورية، وهيف، وجدية، وجيجي. الصينية التركية الكبيرة علقنها على الحائط، مواجهة للداخلين، فوق سرير المخرطة، والصواني الشامية التاريخية، صناعة دمشق على سنوات تشييد قصر العظم، وضعنها على حاملات نجرنها من خشب التيك الجنوبي البديع، المتين، وفرقنها بحرفة وفن على يسار ويمين النافذتين. أما صحون الصيني الكبيرة، وأباريق النحاس الأصفر المصرية، وارد خان الخليلي، فقد وزعنها بمهارة وحذاقة فما شرخن هيبة الأمكنة ولا ابتذلن تناغم المساحات"
تتداخل الصور أحيانا لتحتوي على عناصر مختلفة تتعلق بمعمار المكان وعناصر الزينة ويتوالى هذا المزيج الذي يأخذ من الحياة ليضيف للابتداع أو يفعل العكس بأن يبتدع ما يضيف إلى الحياة الحقة المعهودة. الرواية تأخذ من التاريخ ومن الواقع بنيتهما ولكنها لا تمثلهما. إنها تسعى حثيثا لاختلاق تاريخها هي ومفردات واقعها هي:
"نورية التي كانت تتسلل إليّ في "بيت الزنبور"، حاولت تطبيبي فحفرت حفرة دخان وجلبت لها حطب سلم، فضلا عن الشاف والطلح، مدعية أنه أفيد في مثل حالاتي، ثم عرضتني إلى حمامات دخان ساخن، وأمست تدلكني بزيت السمسم المفتوق بعطور السرتية وبالدلكة السودانية. أدى ذلك إلى تكثيف شهوتي فقط، فتعاشرنا ساعات طويلة عدة مرات كل يوم، لكن شدة أرقي لم تتضعضع"
يستمر هذا المزج بين الخيالي والواقعي على مستوى المكان والديكور وأدوات الزينة على مدى المتن الروائي. يغلب أحيانا الوصف الفنتازي حتى ليقترب من مفارقة شواهد الواقع وهذه تقنية في السرد روّج لها ماركيز كما أسلفنا، ولكن الكاتب يعتمد أيضا على أرشيف ثري من الحكايات الشعبية المحلية التي يمتزج ويتطابق فيها السحري بالواقعي على كافة مستويات السرد. يغادر الفضاء السردي الجزيرة أحيانا فتتم الإشارة لأماكن أخرى كما في هذا المقتطف من الفصل الخامس حيث تشرع إحدى شخصيات الرواية في التحول إلى طائر:
"معتمدة على قنطار من صوف المعزى الجبلية المهرب عبر الحدود من إثيوبيا ونصف زكيبة قطن قصير التيلة وارد جبال النوبة وبضع كلاليق سعف من الشمالية تم جلبها خصيصا من الأراك وناوة، نسجت جيجي ريشها. استعانت بأدوات نسج محلية؛ غوغايات ومتارير من الجزيرة ومناسج من النوراب وبحر أبيض ومخارز، إشفات، مسلات وقداديم من البطانة. ابتاعت حجارة مسن، سكاكين، مراحيك وتفتا من تمبول. أيضا تطّلع على تجارب وثقتها كتابة محاربة مقدامة اسمها الرضية حسين الطاهر، تحولت في شبابها إلى نعامة سعيا لاستمالة قلب ظليم أليف مجلوب من دارفور"
الإشارة في آخر الاقتباس أعلاه إلى الرضية حسين الطاهر والظليم تتناص مع وقائع رواية أخرى للكاتب نفسه هي "أحوال المحارب القديم" . وفي الروايتين تتحول شخصيتان أساسيتان إلى طائرين وفي كلتا الحالتين تستخدم مادة التفتا المحلية كوسيلة للتلوين والزينة كما هو الحال لدى الحرفيات صابغات الأزياء وناسجات البروش والأطباق والسلال في أرياف السودان المختلفة. تتواتر هذه المهارات في التنقل بين الحلم والحقيقة على مدى فصول الرواية وتوالي جيجي الغدو والرواح بين هذين البعدين بانتظام فيتهيأ المسرح لتمرير هذه التقنية السردية لتسقط الأحلام على الوقائع والهواجس على الذكريات دون كلل. سوى أن الرواية لا تركن أبدا للتحليق في هذه الفضاءات الساحرة وحدها، إذ سرعان ما تعود للأرض وللتاريخ حيث يحتدم الصراع الأزلي بين الخير والشر:
"تباغتنا مسرة غامرة ونبدو كأننا نركض بخفة مغادرين العباسية حيث بدأ الشقاق يعصف بحزبنا. تقذفنا ذكرياتنا فوق جسر النيل الأبيض الجديد ونمضي ماشيين عابرين. وقتها كان النيل الأبيض في أوج فيضانه الخريفي البديع فغمر الضفاف حتى أغرق الجزيرة على يساره"
الأطعمة والأشربة يتسق فن طهوها ومزجها مع التقنيات التي تتخذها طقس حار في المزاوجة بين الوقائع والخيالات وكذلك الأمر فيما يخص السلاح، فترد المدافع والبنادق والأقواس والسهام. جيجي "تبتكر ...أمزجة ومحاليل أعشاب...قالت أن بعض ضروب مبارزات القسي تتضمن صراعا نوبيا ......أو حتى صقرية بالرماح الطويلة. غدوت أشرب لبنا قليلا ....شجعتني على استبدال لحوم الضأن السمينة بلحوم الدجاج وسمك الكجيك المجفف وارد سنار.....وضمنت طعامي شوربات خضار مشكل وبصل وجهزت طبخات خالية من اللحوم تعتمد على الملوخية، الويكة، السبروق، البامبي، العدس، الكداد وأم تكشو. كذا أعدت سلطات موليته بالفول الدكوة وشطة القبانيت الصعيدية الحارقة والبصل الأبيض الكسلاوي" وفي فصل سابق نقرأ كيف كان "أبو القاسم هائجا يحمل بندقية طراز جيم ثري، عقبها مصطبغ بالدم" كما يرد وصفا خياليا للمعركة التي خاضها ثوار ثورة أربع وعشرين ضد المستعمر الإنجليزي وكيف حارب عبد الفضيل الماظ حتى آخر رمق.
هذا المقال قدم شرحا مختصرا مشفوعا بالاقتباسات للطريقة التي عالجت بها رواية "طقس حار" المكان وعمارته ومايليها من ديكور وزينة وعناصر أخرى تتعلق بالبيئة الطبيعية للحيز الجغرافي التي تجري فيه أحداث الرواية. بيّن أيضا أن جموح الخيال في الرواية لا يقتصر على الوقائع وتفاصيل الأحداث، بل يمتد ليشمل المكان وعمارته وتاريخه فيمتزج في الرواية واقع تلك الجغرافيا وماضيها بأبعاد خيالية لا سند لها في الواقع غير السند السردي الذي تتبناه التقنيات المختلفة التي أنجز بها المتن الروائي.
المكان وعناصر العمارة في رواية "طقس حار"
الحسن بكري
لأكثر قرائها وربما لبعض نقادها تستوفي الرواية شرطها الخيالي بالأساس على مستوى الأحداث. وحتى الأحداث نفسها ينبغي أن تتفق غالبا مع تجاربنا وذكرياتنا وتواريخنا. لكن ماذا عن المكان والشخوص أو حتى الأزياء والديكور، وأقصى من ذلك، المعمار أو البنية؟ ظلت رواية جوناثان سويفت "رحلات جلفر" عملا ذا قيمة هائلة من ناحية موضوعاتها لولا أنها كانت مربكة لمدارس النقد التقليدي في أبعادها الأخرى المتصلة باستغراقها في خيالية أحداثها وأماكنها وشخوصها، فيتم إلى الآن تصنيفها فانتازيا وكفى وليس رواية. وإلى عهد قريب، تبقّت أثيرة لدى مصممي مناهج القراءة التعليمية المخصصة للأطفال كأي حكاية ينسجها خيال الجدات في ليالي الشتاء الباردة الطويلة . لن تحدث الطفرة الهائلة على كافة مستويات قراءات وتأويلات أشباهها من الروايات بظني إلا بعد "مائة عام من العزلة" ، رواية جبريل جارسيا ماركيز إذ أتى الاقرار أخيرا بهذا الضرب الذي مزج، بشكل غاية في الابتداع والجرأة، الواقعي المطابق لحيثيات الخبر بالخيالي النقيض لشروط المنطق مما حمل على تصنيفه بالواقعية السحرية لشذوذ مخالفته لنواميس المألوف.
سأحاول فيما يلي استعراض بعض ما ورد في رواية "طقس حار" من مشاهد وما استخدم بها من تقنيات في وصف عمارة المكان وما يليه من وصف الأبنية والأزياء والزينة والأثاث والسلاح والأطعمة والأشربة وسواها. سيتم التركيز على احتذاء هذه العناصر لنماذج الواقع أو لاتخاذها الواقع نفسه نماذج تتم مفارقتها الأمر الذي يحقق للرواية أحيانا وصفها كعمل خيالي يتناص مع خبرات المتلقي في استقرائه وتفسيره للواقع رغم أنه لا يتطابق معها بالإطلاق. وفي أحيان أخرى تخالف المشاهد والتقنيات الواقع بالمرة بينما تظل غواية إسقاطها على ما اجتمع لدى القارئ من صور وأحداث وتجارب واردة على الدوام.
واحدة من الثيمات الأساسية للرواية تتعلق بالأثر السلبي الذي أحدثه تشييد مشروع الجزيرة، وهو الفضاء السردي الغالب الذي تجري فيه الأحداث، على بيئة المنطقة التي قام عليها المتمثلة في الأراضي السهلية الشاسعة الخصيبة الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض وكان يطلق عليها "الهوج" قبل إنشاء المشروع. تأثر الصرف الطبيعي لمياه الأمطار فأمست الترع بمثابة سدود عالية تحول دون انسياب المياه صوب النهرين الكبيرين، الأزرق والأبيض، بما يحوّل المنطقة كلها إلى برك راكدة متصلة تعوق الحركة وتؤدي إلى توالد الناموس فانتشار الأوبئة. أدت الترع أيضا إلى استحداث أسقام لم تكن معروفة كالبلهارسيا وقطّعت السبل السالكة التي وصلت بين القرى والبلدات عبر مساحات المشروع. كذلك انقرضت الحياة البرية الغنية التي استوطنت الهوج لآلاف السنين بينما تم تجريف منتظم للتربة بسبب الري الصناعي المتواصل والزراعة الكثيفة ففقدت كثيرا من خصوبتها الفطرية.
يقوم التقسيم الإداري لمشروع الجزيرة على أقسام كبيرة تحتوي على أقسام أصغر تسمى التفاتيش، مفردها تفتيش. في مفتتح الفصل الثاني للرواية، طقس حار، يقول الراوي:
"هيف ونورية أخذتا طريقهما إلى غابة البان الكبيرة في "نمرة عشرين"، ترعة كلتوما الدود، تفتيش نديانة. الوقت ضحى والقمري يسجع فوق شجرة الطلح بنوارها فائح الشذى بفعل حرارة شمس الدرت. ثمة ملاحظة عشق مكتوبة على جذعها بلغة الهوسا بخط رقعة رديء " تحتوي هذا الجملة على وصف يوافق طبيعة وجغرافية المكان في مشروع الجزيرة. حتى ستينيات القرن الماضي اهتمت الإدارة بتخصيص مساحات محدودة لزراعة غويبات أشجار البان، ربما للاحتفاظ للمنطقة ببعض طبيعتها ولتعويض جزء قليل مما فقدته من غابات وكذا لقطع سيقان البان دوريا لبيعها بأثمان مناسبة للمزارعين لاستخدامها في تشييد المساكن أو الوقود. يتم ترقيم كل مجموعة مزارع بأرقام وتسمى المجموعة نمرة. النص هنا يهدف إلى الاحتفاء مباشرة بسيدة رائدة أسمها فاطمة الدود، وإن أطلق عليها إسم كلتوما، ربما للاحتفاظ للنص بحيدته الفنية. الاسم خيالي من جهة ثانية لأنه لا يحدث عادة تسمية الترع بأسماء الأشخاص لكن الكاتب عمد للإشارة إلى تلك السيدة التي رفدت طفولته بمشاهد ومواقف عظيمة فهذه السيدة ظلت لسنوات عديدة من أكثر المزارعين همة وإنتاجا وشهرة في تفتيش ودسلفاب، قسم ودحبوبة، وفاقت زملاءها الرجال في الجدّية والعزم وفي التصدي للحقوق النقابية. وبينما "نديانة" هو اسم لبلدة حقيقية من بلدات المشروع لكنه ليس اسما لتفتيش. من ناحية أخرى فإن رموز الحب، القلب الذي يخترقه السهم والحروف الأولى للمحبين، التي تنقش على لحاء الشجر وترسم على جدران الأبنية من الخارج، هي ممارسة رومانسية واسعة الانتشار، أما أن تكون الكتابة بلغة الهوسا فهذا من بنات الخيال المحض إنما يظل الوجود الكثيف والفعال لقبيلة الهوسا إحدى سمات الجزيرة السكانية الملموسة. أهالي الجزيرة سيمكنهم تمييز الجسور الصغيرة الجميلة، بأحجارها الوردية وأنابيبها الحديدية الهائلة، التي ترد في النص وهي تُتخذ معابر للترع وللسيطرة على تدفق مياه الري. لكن عندما يتعلق الأمر بجسور بعينها ترد في الرواية ، "كبري ود بشير ... كبري علي حامد" فسيكتمل تطابق الوقائع مع ذكريات وتجارب قراء معدودين من قاطني تفتيش ودسلفاب من أجيال الخمسينيات والستينيات وما قبلهما ممن عاصروا هذين الجسرين بإسميهما المعروفين.
يجرى أحيانا دمج الماضي الطبوغرافي والبيئي للجزيرة بحاضرها في إشارة للخراب الذي حل بالحياة البرية:
"تلك هي عظاياتي وذاك هو نحلي. البلاد بين غابة بلول مرورا ببصيلاب وحتى نديانة وغربا إلى مشارف جويلي وغابة قوز كبرو بأشجارها الباسقة الفتية وتلك المعمرة، بعاشيمها، ثعالبها، أرانبها، جماعات نحلها، عائلات القمري والجرول والعظايات، التي أقامت هنا لمئات السنين أو ربما آلافها، ثم طيور الرهو الرشيقة، النفور وأسراب البليبلي البيضاء المهاجرة، هذه وغيرها كلها ملك يميني."
بحلول السبعينيات وما بعدها من القرن الماضي، أمست مثل هذه الحياة المفعمة بالجمال الفطري شيئا من الماضي. تم تهجير كامل لقرية نديانة مما يذكر بقصيدة أوليفر جولد اسميث الجميلة "القرية المهجورة" التي ينعي بها الشاعر ريف أيرلندا حيث مراتع طفولته إضافة إلى الأصقاع التي سافر إليها في ريف إنجلترا والتي هلكت بقيام الثورة الصناعية. غابة قوز كبرو، وهي واحدة من غابات قليلة صمدت لسنوات عديدة بعد قيام المشروع، جرى قطعها بالكامل في السبعينيات والثمانينيات. أما الحيوانات البرية فقد انقرضت. كان بوسع الناس في الستينيات الحديث عن ثعالب وسنانير برية كبيرة تتجول في الأراضي البور والغويبات وشوهدت العظايات تزحف بالمئات والي اليوم توجد بلدات لها أسماء حيوانات برية اختفت تماما الآن مثل قرية البعاشيم وحلة أم أصلة.
تضطرد الإشارات إلى التخريب الذي حل بسبب إنشاء المشروع الزراعي:
"لما انقضت عينة السماك ولاحت طلائع الشتاء، بردت الأسحار وهبت رياح الأسافل، قصدت المسلمية فاكتريت ناقة بشارية وتوجهت إلى الصعيد الأوسط، جهات جبل موية، حيث اتجهت جدية. سألتقيها هناك وستلتحق بنا الجنوبية، أبوك. على مدى الطريق، سألحظ تدهور الأحوال. تتصاعد أصوات الجرارات ماركة ماسي فيرجسون، تتطاول الترع، وتزال الغابات والأجمات. رأيت حيواناتي وطيور في أسوأ حال، أكثرها أصابه الهزال وبعضها قلت أعداده والبعض انقرض أو كاد. "
الراوي، وهو البطل أيضا، يقيم علاقة وثيقة مع الطبيعة وعلى مدى النص الروائي يتضح عمق العلاقة بين شخوص الرواية ومفردات المكان. ثم بقدر ما تختلق الرواية وصفا "سحريا" للمكان والزمان والشخوص وتبتعد عن الواقع، بقدرما تحقق بعض صدقيتها كعمل تخييلي يقترب من ذلك الواقع ليس بإحداثياته المشهودة بل على نحو يستوحي ما وقر في النفوس من أحلام وخيالات وهلوسات وذكريات. يقول الراوي عن حبيبتيه جيجي وأبوك:
"جيجي في طيرانها تسجع، تقلد القماري:
- قوق، قوق، قوق.
أراها في إدبارها، منقلبة من ناحية الشمس، فأحس بالامتنان نحوها. هي دائما سباقة في الأخذ بيدي.....تسعد أبوك بجيجي الساجعة فتجذب أنفاسا عميقة من غليونها ثم تشمر عن ساعديها وتدلك عمودي الفقري، من عنقي حتى عصعصي وتشرع في تسليتي بإلقاء جمل تصف واقع حالها.."
عاديٌ اختراق جيجي للنوع هنا فالبطل يهذي بفعل احدى نوبات احتضاره فيما تظل البيئة هي نفسها، يتماهى الشخوص معها بحواسهم وذكرياتهم ويجري الحدث بواقعيته الجلية وبحيزه المحدد بوحداته المعتادة أثناء هلوسات البطل المغرقة في ابتعادها عن ذلك الواقع.
أما الديكور والأثاث والزينة في الرواية فتمثل امتدادا وثيق الصلة بعمارة المكان ويتراوح بين الطرز المجلوبة من الخارج وتلك المصنوعة محليا. البطل من عمّر طويلا فعاش من بدايات القرن العشرين ليظل حيا حتى نهاية أحداث الرواية التي وقع بعضها في التسعينيات وما بعدها ينتمى إلى الطبقة الوسطى المتعلمة، فهو بزعمه درس وتخرج من كليتين في غردون التذكارية كما أنه قارئ مثقف إذ يشير في متن الرواية إلى بعض أعمال شكسبير وكولردج ورامبو وأبي ماضي. لذلك يبدو ممكنا احتواء مسكنه على أثاث مستورد يناسب مرحلة وقوع الأحداث. إلى ذلك فالبطل وصديقاته ذوو مهارات تشكيلية جيدة. أما سرير"عنقريب المخرطة" فهو قطعة أثاث ما كانت تخلو منها غرفة زوجين في بدايات القرن العشرين وحتى منتصفه بل ربما استمر مستخدما حتى الستينيات وما بعدها بقليل خاصة في أرياف السودان الأوسط وما حولها:
".... نشيد دارا صغيرة في توريلة، أطلق عليها البدري حسن اسم "بيت الزنبور"، نعرض بها أدوات الطيران والآلات الموسيقية وأواني خزفية عتيقة وصواني نحاس وأباريق تاريخية ورثنا بعضها واشترينا بعضها. أيضا نعلق على الجدران الصور والرسوم ولوحات الخط العربي الرائعة والتماثيل التي تفننتُ بصحبة عشيقاتنا وأصحابنا في ابتداعها. سنضع سرير "عنقريب مخرطة" هائل ومتقن الصنعة مفروش بمرتبة قطن يغطيها برش سعف دقيق النسج وملون بألوان تفتا زاهية، في الجانب الجنوبي من غرفة النوم الكبيرة حيث يتيح هذا الوضع تلقي تهوية جيدة بفضل الانسياب التلقائي لرياح الصيف. سيشهد هذا "العنقريب سلسلة لا تنقطع من غزوات الغرام تستمر لما يقارب المائة عام..."
يرد مثل هذا الوصف لترتيب الأثاث وتنسيق الزينة في مواضع أخرى مختلفة بالرواية:
"ووجدت الوقت والمزاج لمشاهدة أوانيَّ العتيقة التي جلبها البدري ورتبتها صويحباتي، نورية، وهيف، وجدية، وجيجي. الصينية التركية الكبيرة علقنها على الحائط، مواجهة للداخلين، فوق سرير المخرطة، والصواني الشامية التاريخية، صناعة دمشق على سنوات تشييد قصر العظم، وضعنها على حاملات نجرنها من خشب التيك الجنوبي البديع، المتين، وفرقنها بحرفة وفن على يسار ويمين النافذتين. أما صحون الصيني الكبيرة، وأباريق النحاس الأصفر المصرية، وارد خان الخليلي، فقد وزعنها بمهارة وحذاقة فما شرخن هيبة الأمكنة ولا ابتذلن تناغم المساحات"
تتداخل الصور أحيانا لتحتوي على عناصر مختلفة تتعلق بمعمار المكان وعناصر الزينة ويتوالى هذا المزيج الذي يأخذ من الحياة ليضيف للابتداع أو يفعل العكس بأن يبتدع ما يضيف إلى الحياة الحقة المعهودة. الرواية تأخذ من التاريخ ومن الواقع بنيتهما ولكنها لا تمثلهما. إنها تسعى حثيثا لاختلاق تاريخها هي ومفردات واقعها هي:
"نورية التي كانت تتسلل إليّ في "بيت الزنبور"، حاولت تطبيبي فحفرت حفرة دخان وجلبت لها حطب سلم، فضلا عن الشاف والطلح، مدعية أنه أفيد في مثل حالاتي، ثم عرضتني إلى حمامات دخان ساخن، وأمست تدلكني بزيت السمسم المفتوق بعطور السرتية وبالدلكة السودانية. أدى ذلك إلى تكثيف شهوتي فقط، فتعاشرنا ساعات طويلة عدة مرات كل يوم، لكن شدة أرقي لم تتضعضع"
يستمر هذا المزج بين الخيالي والواقعي على مستوى المكان والديكور وأدوات الزينة على مدى المتن الروائي. يغلب أحيانا الوصف الفنتازي حتى ليقترب من مفارقة شواهد الواقع وهذه تقنية في السرد روّج لها ماركيز كما أسلفنا، ولكن الكاتب يعتمد أيضا على أرشيف ثري من الحكايات الشعبية المحلية التي يمتزج ويتطابق فيها السحري بالواقعي على كافة مستويات السرد. يغادر الفضاء السردي الجزيرة أحيانا فتتم الإشارة لأماكن أخرى كما في هذا المقتطف من الفصل الخامس حيث تشرع إحدى شخصيات الرواية في التحول إلى طائر:
"معتمدة على قنطار من صوف المعزى الجبلية المهرب عبر الحدود من إثيوبيا ونصف زكيبة قطن قصير التيلة وارد جبال النوبة وبضع كلاليق سعف من الشمالية تم جلبها خصيصا من الأراك وناوة، نسجت جيجي ريشها. استعانت بأدوات نسج محلية؛ غوغايات ومتارير من الجزيرة ومناسج من النوراب وبحر أبيض ومخارز، إشفات، مسلات وقداديم من البطانة. ابتاعت حجارة مسن، سكاكين، مراحيك وتفتا من تمبول. أيضا تطّلع على تجارب وثقتها كتابة محاربة مقدامة اسمها الرضية حسين الطاهر، تحولت في شبابها إلى نعامة سعيا لاستمالة قلب ظليم أليف مجلوب من دارفور"
الإشارة في آخر الاقتباس أعلاه إلى الرضية حسين الطاهر والظليم تتناص مع وقائع رواية أخرى للكاتب نفسه هي "أحوال المحارب القديم" . وفي الروايتين تتحول شخصيتان أساسيتان إلى طائرين وفي كلتا الحالتين تستخدم مادة التفتا المحلية كوسيلة للتلوين والزينة كما هو الحال لدى الحرفيات صابغات الأزياء وناسجات البروش والأطباق والسلال في أرياف السودان المختلفة. تتواتر هذه المهارات في التنقل بين الحلم والحقيقة على مدى فصول الرواية وتوالي جيجي الغدو والرواح بين هذين البعدين بانتظام فيتهيأ المسرح لتمرير هذه التقنية السردية لتسقط الأحلام على الوقائع والهواجس على الذكريات دون كلل. سوى أن الرواية لا تركن أبدا للتحليق في هذه الفضاءات الساحرة وحدها، إذ سرعان ما تعود للأرض وللتاريخ حيث يحتدم الصراع الأزلي بين الخير والشر:
"تباغتنا مسرة غامرة ونبدو كأننا نركض بخفة مغادرين العباسية حيث بدأ الشقاق يعصف بحزبنا. تقذفنا ذكرياتنا فوق جسر النيل الأبيض الجديد ونمضي ماشيين عابرين. وقتها كان النيل الأبيض في أوج فيضانه الخريفي البديع فغمر الضفاف حتى أغرق الجزيرة على يساره"
الأطعمة والأشربة يتسق فن طهوها ومزجها مع التقنيات التي تتخذها طقس حار في المزاوجة بين الوقائع والخيالات وكذلك الأمر فيما يخص السلاح، فترد المدافع والبنادق والأقواس والسهام. جيجي "تبتكر ...أمزجة ومحاليل أعشاب...قالت أن بعض ضروب مبارزات القسي تتضمن صراعا نوبيا ......أو حتى صقرية بالرماح الطويلة. غدوت أشرب لبنا قليلا ....شجعتني على استبدال لحوم الضأن السمينة بلحوم الدجاج وسمك الكجيك المجفف وارد سنار.....وضمنت طعامي شوربات خضار مشكل وبصل وجهزت طبخات خالية من اللحوم تعتمد على الملوخية، الويكة، السبروق، البامبي، العدس، الكداد وأم تكشو. كذا أعدت سلطات موليته بالفول الدكوة وشطة القبانيت الصعيدية الحارقة والبصل الأبيض الكسلاوي" وفي فصل سابق نقرأ كيف كان "أبو القاسم هائجا يحمل بندقية طراز جيم ثري، عقبها مصطبغ بالدم" كما يرد وصفا خياليا للمعركة التي خاضها ثوار ثورة أربع وعشرين ضد المستعمر الإنجليزي وكيف حارب عبد الفضيل الماظ حتى آخر رمق.
هذا المقال قدم شرحا مختصرا مشفوعا بالاقتباسات للطريقة التي عالجت بها رواية "طقس حار" المكان وعمارته ومايليها من ديكور وزينة وعناصر أخرى تتعلق بالبيئة الطبيعية للحيز الجغرافي التي تجري فيه أحداث الرواية. بيّن أيضا أن جموح الخيال في الرواية لا يقتصر على الوقائع وتفاصيل الأحداث، بل يمتد ليشمل المكان وعمارته وتاريخه فيمتزج في الرواية واقع تلك الجغرافيا وماضيها بأبعاد خيالية لا سند لها في الواقع غير السند السردي الذي تتبناه التقنيات المختلفة التي أنجز بها المتن الروائي.