غيوم تحت وتر
تأليف
علي حسين الفيلكاوي
(تأليف)
بين المدن القديمة والمدن الحديثة يسافر "علي حسين الفيلكاوي" عبر "غيوم تحت وتر" كرحالة لا يملّ تعب الطريق، وطول الأيام، وسهر الليالي، وهو يصعد على كثبان المستشرقين الأوائل ويركب أمواج الرحالة في الخليج العربي، مهرولاً مع غبار القوافل إلى أقاصي آسيا، ومجاهل أفريقيا، وحتى أوروبا، ثم يعود ويحط في ...الزمن الحاضر ليحدثنا عن غربة طويلة، وحضارة زائفة.
في عودة إلى التاريخ يبدو العمل الروائي هنا موسوم بحدود الجغرافيا والتاريخ، وتأكيد أبعاده الانعكاسية على مستوى التاريخ/الماضي ومستوى الواقع/الحاضر. فمحكيات الرواية هنا تؤطر فضاءً حقيقياً يرى فيه الروائي الإنسان في بحثه عن المجهول وإصراره للوصول إلى أهدافه، واكتشاف الجديد عبر السفر.
ومن خيارات الفيلكاوي لمدنه ذات الخصوصية التاريخية والحضارية يتكشف منهجه في هذا العمل فهو يقف على جسر التنهدات حين ينبش في كتب الرحالة الكبار والذين يبدأ بهم عمله كـ "المقدسي" في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" وكذلك "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لـ "ابن فضل الله العمري" وبالطبع أهمهم "معجم البلدان" لـ "ياقوت الحموي" وغيرها من عشرات المؤلفات لجغرافيين ورحالة، وسائحي حوادث، ومؤرخين جوالين في الزمن المتخيل للحوادث التاريخية، والذين رصدوا المسافات الشاسعة للزمن، كتبوها بخطواتهم ورسموها بأنفاسهم اللاهثة؛ وإذ به يمر برحلته على الطريق الأبدي نحو الحكمة، يحاور المشاؤون ومثاليتهم وهو يتساءل "لم قطع بوذا كل هذه المسافات من أجل الظفر بتحولات الروح!" ثم ما يلبث أن يحط في الزمن الحاضر ليكتشف ذكاء الرأسماليين في توسعهم في نشر ثقافة الترفيه والاستهلاك (منتجعات فخمة، فنادق لامعة، ومدناً عائمة على شكل سفن وحدائق" أما عظمة السياحة وجبروتها فتتمثل برأيه "في شربها عصارة الإنسان الذي قضى سني حياته يعمل فقط، ويدخر المال في أقبية البنوك، من أجل أن يملأ، في النهاية، الكأس، ويرفعها في صحة السفر".
وفي خضم هذه الرحلة بين – الماضي والحاضر – يصطنع الراوي أحداث وأماكن وشخصيات يبحر معها كـ "سندباد" ويحلق بعيداً كـ "أَليس في أرض العجائب". في محاولة لاكتشاف السر في توق الإنسان للسفر وهو يتساءل "هل السفر وجه آخر للحرية؟ كلمة مرادفة للنسيان! أم هو مجرد هروب ممتع؟" وكأنه يقول إن الإنسان عندما يبحث عن حياة أخرى يظن أنها له وحده، فإنها "حياة لن تتحقق سوى بالانتقال الزمني (...)" في إشارة إلى التقدم التكنولوجي الذي لم يعد فيه "بول بوولز" (Paul Bowles) وغيره، أوصياء على زمن المسافر، لقد ألغى الفضاء الإنترنتي المسافات القديمة، ما بين "المسافر والسائح"، وتحققت ألفة الأماكن، والشعور بسريان الزمن في شرايين الإنسانية، نعيش الآن مشاعية الرؤية، للجميع الحق في الانتماء إلى معالم المدن، وأسمائها (...) وللجميع الحق في وضع رأسه على صدر المدينة التي تعجبه (...)".
لقد أزال مؤلف (غيوم تحت وتر) الخطوط الفاصلة بين مدن الماضي ومدن الحاضر وقارب ببراعة بين ثقافة الأجداد، وعصر الانفتاح، وبهذا المشترك يكون الفيلكاوي قدم لنا أثراً روائياً يفرد بين ثناياه حيزاً واسعاً للمتعة والجمال، فتماهى العمل مع قارئه محدثاً دبيباً رقيقاً، وقد انسل بعفوية هادئة وهذا ما يميز الفيلكاوي فهو شاعراً قبل أن يكون روائياً وكاتباً...