من زوايا الذاكرة ؛ محطات رحلة في قطار العروبة
تأليف
كلوفيس مقصود
(تأليف)
لكل تجربة دروسها، لا سيما إذا تعددت محطاتها وطالت رحلتها فكانت تتصل بقضايا وهموم وتطلعات مصيرية، وبالأخص إذا حكمها الالتزام بخط وقناعات وقضايا محدّدة، بذلك تصبح أشبه بالمختبر وتتراكم فيه الخلاصات وتتبلور الأمور والخيارات ممّا يحولها إلى مشاركة في عملية تصحيح التعامل مع هذه القضايا وإعادة تصويب بوصلتها.
من هذا المنطلق ...كان هذا الكتاب الاستذكاري لرجل امتاز بثقافته العالية ونبضه العروبي ووطنيته الصادقة، إنه كلوفيس مقصود رجل المهمات الصعبة حيث يضع مسيرته بما فيها الالتزام بالعروبة ومشروعها الوحدوي، في متناول القارئ، خاصة من أجيالنا الطالعة - يقول المؤلف - علها تشكل مساهمة ولو متواضعة في التحفيز على ضرورة العودة إلى هذه الحقيقة البديهية والأساسية، بكونها عودة إلى الذات بعد تنقيتها من الشوائب والأدران التي لحقت بها.
مع اعتراف المؤلف أن المسيرة القومية العربية وقعت في أخطاء وأزمات قاسية، لكن ذلك برأيه: "لا يغيّر من واقع أن العروبة بالنهاية هويتنا، هي نحن ونحن هي. وبذلك هي الثابت الملتصق فينا. الاستسلام لفشل تجربتها ليس خياراً، بل حافزاً لإعادة تصويب بوصلة العمل القومي باعتباره مفتاح الخلاص والخروج من دوامة الضياع والتمزق..." أما عن "الوحدة" فهي بالنسبة للمؤلف: "ليست شعاراً. هي واقع تبدت تجلياته في كل مرة كانت الروابط العربية تتعرض لتحديات كبيرة. ظهر هذا الواقع مع نكبة فلسطين (...)، أيضاً برز مثل هذا الالتفاف أثناء أزمة قناة السويس والعدوان الثلاثي آنذاك على مصر (...)، كما برز مع إعلان الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958 التي هتفت لها الشعوب العربية باعتبارها بداية لتحقيق الوحدة المنشودة بين أقطارها، ثم توالى هذا التعبير الوحدوي في كل مرة كانت تتعرض فيها الأمة للتهديد أو العدوان من قبل إسرائيل أو غيرها، مثل الحروب على لبنان والعراق".
تأتي أهمية هذه الاستذكارات من كونها جاءت في لحظات مفصلية في تاريخنا الحديث فكانت الشعوب العربية تنتقل فيها من حال الخوف إلى حال المواجهة في خضم حركة تغيير كبرى تروم الديمقراطية والحرية والسيادة والحياة الأفضل. لقد ترافقت استذكارات هذا الكتاب مع بزوغ فجر "الربيع العربي"، مطلع العام2011 ؛ فانتشار الانتفاضة وانتقالها من قطر عربي إلى آخر بصورة تلقائية، قد رسخ إيمان المؤلف بوحدة الشعب العربي. والأهم بالنسبة له: "أنه في المرة بدأ جانب المواطنة يتبلور في هذه الوحدة. وهنا القفزة النوعية التي يختزنها "الربيع" بالرغم من وقوعه حتى الآن في التخبط والضياع والفوضى. ومن هذه الناحية فإن بدايات هذا التبلور هي تأكيد على إنسانية العروبة وانفتاحها على الحداثة وروح العصر، فهذا الحراك الكبير يبشّر بالمزيد من التحوّل الديمقراطي العروبي، مع ما ينطوي عليه ذلك من تعبير عن أصالة الشعور بالوحدة".
يَعتبر مؤلف الكتاب أن الأنظمة العربية مسؤولة بالدرجة الأولى عن فقدان المناعة الوطنية والقومية ووصول التدهور العربي إلى حالة التناحر المخيف التي نشهد فصولها الآن، فالطليعة العربية ليست بريئة، فهي تتحمل هي الأخرى مسؤولية السكوت عن تغييب أولويات وشروط البناء الوطني والقومي، حين ارتضت ترك زمام الأمور للأنظمة التي حصرت الحكم وآلياته بيد النظام القائم فصار هو الدستور والمؤسسات والقانون، بسبب تنازل الأحزاب ومعظم القيادات والطلائع والهيئات النقابية والمدنية، مع بعض الاستثناءات، عن حق بل عن واجب النقد. ناهيك بالمراقبة والمحاسبة...
وبهذا المعنى فإن المؤلف يؤكد على أن العروبة: "لا تصحُ من دون مضمون إنساني حضاري وأن الردّ على استرخاص الإنسان العربي، لا يكون إلاّ في جعله المحور المركزي لأي مشروع قومي نهضوي بما يكفل حقوقه الأساس غير القابلة للصرف".
هي محطات من زوايا الذاكرة يعرضها كلوفيس مقصود في هذه السيرة (السياسية والصحافية والدبلوماسية والتدريسية)، والتي شكلت رحلة اهتماماته وعمله، على مدى نحو ستة عقود فيها الكثير من حياة رجل كان وما يزال ضمير لبنان والعرب بامتياز.
يقسم الكتاب إلى تسعة فصول تستعرض محطات السيرة بين الأعوام (2013-1926) وهي: الفصل الأول: 1951-1926 البدايات وسنوات الدراسة، الفصل الثاني: 1958-1951 العودة إلى لبنان، الفصل الثالث: 1960-1958 قيام الجمهورية العربية المتحدة وثورة 1958 في لبنان، الفصل الرابع:
1966-1961 الهند، مرحلة الهند الموعودة، الفصل الخامس: 1973-1966 من الهند إلى القاهرة، الفصل السادس: 1979-1974 حظر النفط.. ومسلسل التداعيات في المنطقة، الفصل السابع: 1990-1979 رحلتي الدبلوماسية كسفير للجامعة العربية في الأمم المتحدة وواشنطن: بداياتها وتحدياتها ودروسها، الفصل الثامن: مرحلة التسعينيات 2000-1991، الفصل التاسع: 2013-2000 عقد التحولات الصاخبة.