كثيرون منا يعتقدون ببساطة أن هناك حقائق و أكاذيب. و أنه يسهل التمييز بينهما. و لكن للأسف ليس الأمر بهذه السهولة و هذا ما اكتشفه البشر من القدم. فعبر التاريخ توصل أولئك الذين فكروا في طبيعة الحقيقة و أضدادها إلى مبدأ واحد أساسي. فمقابل محدودية الطرق التي يمكن للإنسان لأن يكون بها محقا. هناك عدد لا نهائي من الطرق التي يمكن أن يكون وفقها مخطئا.
كان القديس أوغسطينوس (345-430) أول من وضع تعريفا لثمانية أنواع من الكذب و رتبها ترتيبا تنازليا بحسب سوئها: الكذب في التعاليم الدينية. الكذب الذي يضر بالغير و لا يفيد صاحبه. الكذب الذي يضر بالأخرين و يساعد صاحبه. الكذب لمجرد الاستمتاع. الكذب الذي يكون في سياق الكلام و بهدف جذب انتباه السامع. الكذب الذي لا يضر أحدا و يساعد صاحبه ماديا. الكذب الذي لا يضر أحدا و يساعد صاحبه معنويا. و الكذب الذي لا يضر أحدا و لكنه يحمي من انفصام عري العلاقات.
الكذبة تستطيع القيام بجولة حول الأرض في الوقت الذي تكون الحقيقة فيه تنتعل حذاءها.
يتشكل حاجز الجهد عندما ترجح الصعوبة النسبية للتأكد من حقيقة أمر ما على أهميته الظاهرة. لكن النقطة المهمة هنا هي أن حاجز الجهد ينطبق على الأمور التي يسهل نسبيا التأكد من صحتها. و لكنها تافهة إلى حد أن أحدا لا يتأكد منها. و ينطبق أيضا على الأمور المهمة للغاية الذي يصعب جدا التأكد منها.
هناك مشكلة جوهرية يعاني منها البشر. و هي أننا عندما نتطلع على تعقيدات العالم و على الإحباط الذي يصيبنا بسبب العيش فيه فإننا نرغب في توجيه أصابع الإتهام إلى مجموعة من الناس المختلفين عنا و القول: هذا خطؤهم. و إن لم نفعل ذلك بأنفسنا فسيكون هناك شخص آخر عادة ليخبرنا بإسم الشخص الذي يجب إلقاء اللوم عليه: السحرة. المهاجرين الجدد. اليهود. الشيوعيين. المتنورين. و في بعض الأحيان كل هؤلاء جميعا دفعة واحدة إن كنت محظوظا.
نظن أننا تركنا وحوشنا في الماضي و لكنهم يسيرون معنا كل خطوة من الطريق.
هذه مشكلة حقيقية في تاريخنا. فكثيرة هي الأمور التي لا نعرفها. و كثيرة هي الأمور التي نظن أننا نعرفها. و لكننا في الحقيقة لا نعرفها. و نحن أيضا و لسوء الحظ لا نعرف ما هي الأمور التي لا نعرفها.
المشكلة هي أن كثيرا من الأشياء التي نظن أننا نعرفها يتبين أنها تستند إلى أسس ضعيفة.
أين يتركنا كل هذا؟
هل تعاني الحقيقة من أزمة؟
هل سندمر بسبب عيشنا في هذه الحياة التي يغمرها ضباب المعلومات غير الصحيحة؟
لا اعتقد ذلك بالطبع. إننا نسبح في بحر من أنصاف الحقائق و أشباه الأكاذيب لأن العالم غبي و معقد. ما من أحد يعلم بالضبط ما الذي يحدث. و هذه هي تركيبة أدمغتنا. و لكن هذه ليست أزمة. فلطالما كانت الأمور على هذا النحو.
أعتقد أن هذا أول ما علينا فعله إذا أردنا نقل حياتنا من عالم الكذب إلى عالم الحقيقة. يجب أن نفقد عقولنا. يجب أن نقدر أن الكذب سيبقى دائما معنا. أفضل ما يمكننا عمله هو أن نبقيه قيد الاختبار.
بما أننا نتحدث عن الأمر. علينا أيضا أن نتحقق من أنفسنا. فيمكن لأي واحد منا مهما ظن نفسه ملتزما بالحقيقة السقوط بسهولة في فخ الغرور و حب الكذب. في الواقع كلما ازداد ايماننا بأننا صادقون قل احتمال أن نكون حذرين من هذه الأنواع من التحيزات.