مقال أدبي بعنوان: رواية (خرط القتاد) بُؤرةُ وجعٍ بقالبٍ تدميريٍّ
بقلم: د. مرام عبد العزيز العنزي
دكتوراه في الأدب العربي والنَّقد الأدبي - جامعة الكويت
معلومات الرِّواية:
رواية خرط القتاد، للكاتب أحمد سالم خشّان، صادرة عن الدَّار العربيَّة للعلوم ناشرون، تبلغ 296 صحيفة، من الحجم المتوسط.
خرط القتاد! عنوان يُدهشك من أوَّل وهلة! فكلمة (القتاد) مفردة غريبة اللَّفظ، مجهولة المعنى، لم تألفها الأسماع، فهي لفظة غير تداوليَّة بين النَّاس، فنرى عبقريَّة الرَّاوي بمفردة (القتاد) خَلَقتْ كَوْن الرَّواية، لأنَّها لفظة تذوقيَّة تفرض على المتلقِّي التَّكهن بمعناها ودلالتها، وتستفزّ فضوله، وهذه جرعة أُولَى من التَّشويق.
ثم يُفصح الكاتب عن قصده: (فقد نبتنا في بيت أبي كشجر القتاد الذي يحتمي بأشواكه الحادَّة، فيخشى كُلّ أحد الاقتراب منه، لصعوبة خرط أشواكه التي هي كأمثال الإبر، والذي لا تأكله الإبل إلا في عام الجدب) فَبَعْد العلم بمعناها وارتفاع الجهل عن مبناها، يجعل الرَّاوي هذا المركَّب الإضافي (خرط القتاد) ثيمة متنوعة الإيحاء مفتوحة الآفاق بتعدديَّة تأويليَّة ،تجعل لنا حرية الحركة بمنافذ عدّة لجماليَّة الاختيار وتذوق لا محدود، تجمع بين المتعة باسترسال المتخيّل بفرضيّات تأويله والتوهان في تأمل مآسي الرّواية في بؤرة البوح الطاغي على الرَّواية.
لا أخفيكم سرًا بعد قراءتي ( الإهداء) الذي يضجُّ بعبارات الصمت، أسرتني وتشعبت جملة التخمينات بموضوع الرّواية قبل أن ألمح مقولة محمد حسن علوان التي أقتبسها الكاتب (كلُّ المُدن تتَساوى إِذا دخلناها بتأشيرة الحُزن) التي بعثت أولى إشارتها الرّمزيّة إلى مرتكز الرّواية وهو أزمة المكان وضياع الهُويَّة، فقسَّم الرَّاوي روايته إلى أربع دول (الامارات والأردن والبحرين والكويت) لتبدو البنية الجماليّة للانتقال في أماكن متوالية عِبْر مَرْكَبة الوجع مصحوبة بأحداث تدميريّة والغور في تفاصيل بطلة الرّواية (عائشة) وسلسلة تقلباتها، من صوفية إلى عاشقة، من مواطنة في بلد ولدت وترعرعت فيه إلى فقدان وطنها للعودة بالانتساب إلى وطن أبيها الذي تصارعه كما تصارع أبيها، من حلمها الهندسة إلى تعلقها بقسم اللّغة العربيّة لأنه قسم حبيبها، جُمَلٌ مُكثَّفة من الإشكالات الاجتماعيّة والهموم الذاتيّة ومآزق وفراق وتسلط وصراع وواقع غير عقلاني لا يُمنطق هذا الجنون كلّه، يستنطق النصُ أغوارَها وترامياتها النفسيّة. وهذا تنقل عقلاني محكم، صدر عن رؤية فنيّة مصممة.
تحْقيبُ الكاتب للرّواية ليس تحقيبًا زمنيًّا بحتًا بقدر ما هو تحقيب تشويقي يحمل تطورًا للأحداث باسترجاعها وذلك يظهر جليًا في قصة عمّتها (رزان)، بؤرة التَّوتر الحدثي في الرّواية، وجرعة الوجع الّتي تظهر لنا بعد أن نستريح من عناء عائشة ومطاردتها حبيبها محمد، لننغمس في رزان واليتم يُعربد بها. فالرّواية استطاعت أن تجسد لك اليتم كحالة شاخصة تعبث تتآمر تحرض تدبّر، إنها استفحلت لتصبح آلة تدمير كاملة.. تطوف بنا وريقات عمّتها، لننتقل بين أحداثها بمزيد من الشَّوق والتَّوقع بشعور متغاير لكل توقع في هذا العالم الذي ينبض بحياة الشخوص وآلامهم وتلك فنيَّة الاقتدار بغموض يستدركه المتلقِّي بالمتعة المُحفزة لإكمال الرَّواية بلهفة، ويصنع منه قارئ يتسلق الفصول لنهاية شغفه ومسك خيط الخاتمة.
إن ما يشدّ القارئ إليها هو جاذبيّة إبداع أسلوبها، حيث عمد الكاتب إلى آليّة اختزال الأفكار وتكثيفها لتصب في عمقها الدّلالي، وتُوغل في استنطاق عائشة ورزان من الدّاخل وترَك للقارئ فسحةً واسعة للتّخيّل والتّحليل والاستيعاب، وذلك ضمن قالب أدبي فني بديع، جمع فيه كاتب الرّواية بين جماليّة الأسلوب وعمق المعنى، وبين جاذبيّة الأدب الرّوائي وأركيولوجيا الفكر الفلسفي.
تناقش الرّواية العشق كمفهوم بريء نؤمن به فكرة ونستمتع به قبل أن يتطوّر ويصبح كائن مخيف يقتل معتنقيه.
وجسد الرّاوي رمزيّة البعد الرّوحي داخل الرّواية في نقل العشق من مفهومه المرتبط بالممارسة الجسديّة الصرفة إلى انصهار كُلّي سامي يلتحم فيه الجسد بالروح ليصبحا كُلًا موحدًا.
الرّواية تحمل من الإيحاءات والدلالات والتقنيَّات الفنيَّة المعروضة بلغة مكثَّفة، تحث ذائقة أيّ ناقد في الغوص بأعماقها، لاستخراج الجواهر من مخزونها الزَّاخر.
تظهر الحبكة في الرّواية حين استنطق الرّوائي إمكاناتها، على نحو يُؤصل رؤيته السرديّة، وتُمكّنه من خيوطها، محققاً من خلالها مُنجزًا فنيًّا تجلَّى في استظهار العناصر المضمرة في النسيج الاجتماعي المتعدد النَّماذج، والإفضاء بالمحدّدات العامَّة للمنظومة الثَّقافية والاجتماعيَّة للمكان في هذا النَّص.
ولا يفوتني أن أقول أنَّ القارئ سيجد في الرَّواية سحر اللّغة الفصيحة بجماليّة رسوخ فصيحها، وعبق إشراق المعنى، والحلل البديعيَّة التي رصَّع بها الكاتب روايته التي تدفع الحدث وتثريه.
أسوق هذه المراجعة السريعة لرواية خرط القتاد وأنا أطوي صفحتها الأخيرة، وأحاول أنفض تلك الساعات التدميريّة التي عشتها مع عائشة ورزان، وأُخفف وطأت جرعة الألم والحزن اللتين تجشمت عناءهما طيلة رحلة قراءة الرّواية، وإنَّ ما تقدّم ليست مقالة نقديّة وإنّما هي ترجمة لما لمسته ووصلني من الرّواية، مع اعترافي بأنِّي مُنحازة للنَّص بقوة بقوة.