#ريفيوهات
"رحيل وغربة.....رحلة داخل قلب مرتجف"
-لا أذكر بالحديث عن النوبة وأهلها إلا مشاهد متقطعة يأتي ذكرها خجلا على هامش الأعمال التليفزيونية، آخرها مشهد بسيط من فيلم "الممر" يتحدث تصريحا عن معاناة المهجرين منهم بعد بناء السد العالي، وبحكم ذلك وجدت صعوبة في قراءة الرواية لتطويع عقلي فيرى المأساة التي تم سردها، ومناقشة أيضا المخفي عن سطور التاريخ غالبا "تاريخ حيوات الناس بما فيه من ذكراهم" وبين مجموعة مشاعر تدخلنا لتشريح حالة الإنسان.
--ذكرياتنا تاريخ "عنصر مفقود غالبا"
- قلت سابقا أن التاريخ في ملك صاحبه "أي أن المنتصر غالبا لا يد فيه" يستطيع أن يشكله ويطيعه فيستطيع قلب الحقائق أو كما يقال إضافة بعض البهارات وحسب لتظهر ما يحب، أو ربما يكشف معاناة منسية ويسويها بأوصاف ومسميات وأشياء تخصها حتى اللهجة واللغة فتمنح هويتها المسلوبة من سطور التاريخ المجردة، هنا يكتمل الشكل ولكن لشرط أن يبقى حيا قابل لأن يراه قلبك فيتأثر أن يوجد روحا للمكان فريدة عن البيئات المجاورة، وللناس أمام الحدث نفسه فترى واقعا ممثلا تتأثر به أحيانا.
-وفي تلك الرواية وجد ذلك واضحا، وفي مشاهد متتالية استطعت رؤية -مشوشة قليلا- بيئة أهل النوبة بأفراحهم وأهازيجهم، وأحزانهم كذلك، وبعاداتهم سواء في الزواج والموالد أو حتى في زيارتهم للأضرحة وتعلقهم بها على طول الحبكة "وهنا مدخلا إن تفهمنا الحكم الديني لفهم فلسفة العامة ونظرتهم لأمور إيمانية بجانب حياتهم البسيطة أو يشبه مقولة إيمان عجائز نيسابور"، ثم والعنصر المهم شعور التهجير نفسه الموزع بين الشباب والكبار، ولأن كل يحمل نصيبا مختلفا فضلا عن رسوخ الكبار أشد في الماضي وهشاشة الشباب بين ماضٍ مشوش ووضع قائم قاتم، تجد المشاعر متباينة تصلح كمزيج مر يليق فيطعم سطور التاريخ بين قرارات الرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس السوداني محمد عبود وقتها.
-ولو نظرنا للسد العالي وعماله كما وصفوا في الرواية أيضا نتذكر عبد الحليم حافظ وهو يغني "الحكاية مش حكاية سد" فتجد كما قال اختلاط مبهر بين الناس بمختلف بيئاتها، وتنصهر أمام حلم واحد فتجد شخصيات ك"عمران" و"محمود عدلي" و"الاسطى ربيع" يجمعهم نفس الحماسة التي تجعلهم أبناء للسد صنعهم وجعل لحياتهم شيئا يفتخرون به يرشدهم من التيه ولو كان برؤية بسيطة لعبد الناصر أو السد ابنهم الذي صنعوه رغم ما يخلفه من مشقة وألم
--إعادة تشكيل المشاعر "فخاريات"
ما يميز "رحيل وغربة" ليس الوصف الدقيق لمشاعر الاغتراب والشتات وترك الذكرى على حساب الحاضر فحسب، وأجد من رواية ثلاثاء آخر للكاتبة ما أستطيع الحديث عنه من إعادة إحياء وتطويع للمشاعر والخلجات، حيث معاناة حسن وتذوقه حياة المدينة الصلبة التي لا تفهم البساطة وتهوى اللعب والعبث على جميع الاتجاهات فتدهس الطموحات، يقتسمها- أو توحدت فيما بعد لحسن- عبد الرازق عابد وعبد القادر مريد "بمحو حياته بجرة قلم" وصالح الذي انكوى بنارها وصدم بها وهي تنكره "متمثلا في شخصية نورا"، وربما عمران الذي امتلأ قلبه بالعمل وتلاهى في دنياه عن أصله، وكذلك والدة حسن الحاجة ونيسة يقتسمها جميع جدات الشخصيات ومنهم جدة داود والحاجة حكيمة فهما مثلها يعرفان المكروب من نظرته فيواسيانه
-وفي مشاعر الامتلاء التي رآها داود في أمه ورآها في نفسه، فضلا عن صالح، يشبهان حسن الصموت غالبا، ومنه نرى مقاربة للفخار الممتلئ عن آخره بالماء فلا يسمع صوته بالطرق عليه مثلما هو فارغ "بديهي جدا" ولذلك فإن على قوة اليد الدافعة على مدى ما يتفرغ من الماء، فكما وجدنا حسن يفرغ ما لديه في الكتابة، نجد صالح يفرغ ما به من تيه لنورا وكذلك نورا تفرغ شعورها وصراعها مع الموت لصالح، وداود أيضا وجد فراغه عندما ثار النهر، أما أم داود فتركت إفراغها للزمن فيذيب ما بها على مهله، وهكذا الباقون.
-وبين الروايتين، كما قلت أن ثلاثاء حسن هو كل ما وضع فيه دون رغبته وشكله فصار عالقا بين واقعه وعالمه المحبب، فيتفق معه صالح المتبرم من مصيره المسطر لكن واقعه يجعله يرضى به، وكذا الناس في ثورتهم على توزيعهم لمدينة غير ما أرادوا وصدمتهم في آخر الأمر، وأخيرا نظرتهم بين الماضي الغارق والحاضر المجهول، فيحمل كل منهم ثلاثائه ليتعامل مع حاضره ولكن بشرود ناحية عالم آخر، بنظرة عامة ناحية شخصيتين الاسطى ربيع وجد عمران لأن الواقع له نفس الأثر والقلوب تتشابه في وقوفها على الجادة دون وصول "مثل شخصية سيد نصار"
الخلاصة: رواية جميلة رغم ما عانيته من صعوبات في فهمها وفهم بيئتها لكنني تأثرت بما فيها من مشاهد كلقاء حمدون-الشبيه بحسن في ثورته وتوهانه- بأهله، فضلا عن أنها أضافت لمعاناة قديمة حياة تليق بها