"أتدري، ولا مرة في حياتي حصلت على شيء أريده فعلاً. ولا مرة. هل تصدق؟ لا يُمكنك أن تفهم معنى العيش هكذا. ما أن تعتاد حياة لا تحصل فيها أبداً على أي شيء تُريده، حتى تفقد القدرة على معرفة ما تُريد."
أصبحت القراءة لـ"هاروكي" من الملاعب المُفضلة بالنسبة لي، أمسك الكتاب أرتدي نظارة ثلاثية الأبعاد، ويرسم لي "هاروكي" عوالم من الشخصيات والعلاقات والأحداث الغرائبية المُتمكنة، بأسلوب شيق للغاية، لا يوجد ملل هُنا. هُنا توجد المُتعة خالصة.
في هذه اليوميات الأولى والثانية من أصل ثلاثة، يتناول "هاروكي" حياة أحد الأشخاص العاديين، موظف عادي، يتزوج موظفة عادية.. تبدا الأحداث بحدث غير عادي قليلاً مثل اختفاء قطتهم.. ليتبع ذلك سيل من الأحداث غير العادية.. أحداث ستنقطع أنفاسك وأنت تُتابعها، وتتوالى المُفاجآت الغريبة كشلال.
ولكن هذا ليس أفضل ما يمتلك هاروكي، أفضل ما يمتلك هاروكي هو البُعد النفسي الذي يصبغ به شخصياته، يلونهم به، ويُشكل علاقاتهم، شخصيات رُبما تبدو غير عادية، ولكنها في حقيقة كُل الأمور، عادية للغاية. أتوقع أن هاروكي لديه منظار سحري؛ يجعله ينظر للأشياء فيفهمها بطريقة مُختلفة عما نعرف ونعلم، فيقوم بالكتابة عنها مثلما رأى. فمثلاً، رؤية "هاروكي" للجنس مُختلفة، مُمتعة، ومُثيرة.. تطرح أسئلة فلسفية عن كُنه الجنس نفسه، الشعور حوله، والتأثر به والتأثير الواقع من خلال ظلاله. العديد من الكُتاب يكتبون عن الجنس، ولكن هاروكي فقط من يستطيع أن يربط الجنس بألوان شخصياته المُختلفة، لكلاً منهم له طريقته، وفقط عندما تتعرى الأجساد؛ تظهر الشخصيات على حقيقتها الداخلية، دون أي كذب أو خداع أو غش. هاروكي يجعلنا نرى ذلك، ويجعلنا نفهم ذلك من خلال شخصياته. لا أريد أن أجعل هذه المُراجعة يصلح عنوانها أن يكون: في محبة هاروكي موراكامي؛ ولكني لا أستطيع أن أجحف بالتأثير الكبير الذي يتملكني عند القراءة له.
"هل يُمكن حقاً أن يفهم الإنسان إنساناً آخر فهماً كاملاً؟
بمقدرونا أن نُنفق وقتاً طائلاً، وطاقة هائلة، في محاولات جادة لمعرفة شخص آخر، ولكن في نهاية المطاف إلى أي حد يُمكننا أن نقترب من جوهره؟ نستمرئ أن نُقنع أنفسنا بأننا نعرف الآخر حق المعرفة، ولكن هل نعرف شيئاً مُهماً عن أي كان؟"
يُدرج "هاروكي" داخل أحداثه مفهوم العلاقات والبشر، هل نفهم البشر حقاً؟ هل تستطيع أن تُجزم بشكل صريح وواضح أنك تفهم شخصاً ما تماماً؟ مهما كُنت قريب منه؟ حتى لو تنفست أنفاسه نفسها؛ صدقني لن تفهمه. هُناك حالة من الحيرة تُصيبنا إذا اكتشفنا بخداع شخصاً ما، تنبع هذه الحيرة من أننا لم نتوقع أبداً أن يكون الشخص الذي نشدناه ليُنقذنا، هو من تولى عملية إغراقنا وخداعنا. هذه مُفارقة ساخرة؛ ولكنها حزينة للغاية.
وجاءت علاقة "تورو" بزوجته لتجعلنا نفهم ذلك ونرتعب من وجوده؛ أنه حتى الزواج لم يعد كافياً لأن نفهم أنفسنا؟ أكثر العلاقات حميمية هي الزواج ورغم ذلك لا نعرف ما يدور بداخل الطرف الآخر.. أليس ذلك مُرعباً؟ يبعث على الخوف والقنوط والاحباط؟ إذاً لمن سنفك أسرارنا المُقيدة إذ لم نستطع البوح بها لأقرب الأشخاص لنا؟
"لا شك في ذلك إذن، مر يوم كامل. لكن غيابي على الأرجح لم يؤثر في أحد. لن يُلاحظ إنسان أنني غبت. لو أنني اختفيت من على وجه الأرض سيسير العالم كأن شيئاً لم يكن. صحيح أن الأمور شديدة التعقيد، لكن الواضح هو أن لا أحد كان في حاجة إلي."
ويُكمل هاروكي الضلع الثالث من المُثلث الضبابي من الرواية؛ ألا وهو: الوحدة.
الوحدة هي مرض العصر؛ لأن هذا الشعور ليس -حصرياً- أن تشعره وأنت وحدك فقط، ولكن يُمكنك أن تشعر به وأنت حولك العديد من الأشخاص.
ولكن "هاروكي" لا بُد أن يربط الوحدة بالفقد؛ فقد الموت أو فقد الخُذلان أو فقد اللامبالاة حتى.. يجب أن تكون الوحدة مُرتبطة ارتباط وثيق بالمآسأة. ألا يكفي شعور الوحدة وعذاب لياليه؟ بالنسبة لهاروكي لا، يُضيف عليه ألم الذكريات التي تشق صدرك بسكين تلم الشفرات.
"خطر لي الآن أنني لم أقل مرة في حياتي لأحد بوضوح (أريد أن أفعل ذلك). بل أنني لم أقل حتى لنفسي (أريد أن أفعل ذلك). فمنذ لحظة مولدي عشتُ مع الألم في محور حياتي. كان هدفي الوحيد في الحياة أن أجد طريقة للتعايش مع ذلك الألم الشديد."
وكُل أضلاع المُثلث ترتبط بالألم؛ فألم الجنس ألم متعة ولذة، وألم العلاقات ألم خوف وترقب وألم الوحدة ألم مُدمي للقلب والروح..
وتلك التقلبات وما يتخللها من سرد مُحكم لا يتخلله أي ألم سردي، يسير بك هاروكي مُرشداً لك في الرحلة، وأنت تُريد أن تمتد تلك الرحلة للأبد؛ لا تُريد لها الإنتهاء.
رواية جميلة ومُمتعة، سأظل أتذكر تفاصيلها كثيراً.. وأتمنى أن يصدر الجزء الثالث لليوميات في أسرع وقت مُمكن.. حتى نُكمل هذه الرحلة المُمتعة.
وبالنسبة للترجمة؛ فهي من أجمل الترجمات التي قرأتها.. ترجمة أمينة ومُخلصة مبذول فيها جهد غزير واسم المُترجم "أحمد حسن المعيني" سيُصبح واحد من المُترجمين المُفضلين بالنسبة لي.
يكل تأكيد يُنصح بها.