تستدعي رواية "كاتيوشا" للروائي الكبير وحيد الطويلة الكثير من الأفكار، بمجرد النظر إلى عنوانها، لاسيما في هذه اللحظة الفارقة التي تدوي فيها بالفعل صيحات الحرب، وتتزايد المطالبات الإنسانية بتوقفها، حيث تشير "الكاتيوشا" بشكلٍ مباشر إلى قاذفة الصواريخ الروسية الحربية الشهيرة، التي لا تكتفي بإصابة هدفٍ واحد وإنما تدمر في الوقت نفسه عددًا من المواقع فتحيلهم إلى رماد! ولكن ثمة "كاتيوشا" أخرى تمثلت في جملة واحدة تنطلق إلى قلب امرأة بشكلٍ يبدو عابرًا لتقوّض عالمها كله، فيما رجل راقدٌ بين الحياة والموت تتم مراجعة أقواله وأفعاله، ورصد عالمه كله وهو على شفا الموت!
تبدو الصورة حاضرة ومغوية منذ الوهلة الأولى، ويبدو رهان الكتابة والرواية صعبًا للغاية، هل يمكن أن تدور الرواية حول توابع هذا الزلزال، وتلك القذيفة القوية؟! هل من اليسير أن تمضي خيوط الرواية بأكملها في تتبع مسارات الحياة التي أفضت في النهاية تلك اللحظة الراهنة؟ هل سيتمكن الكاتب من الإمساك بخيوط روايته إلى النهاية؟
نقرأ من الرواية:
((الحرب بدأت من زمان، وما تسمعه الآن يا غالي هو صوت الرصاص!
الحرب بدأت دون أن أعرف لها توقيتًا، واحدة من الحروب النادرة في العصر الحديث التي تحدث دون أية مقدمات، إنها أشبه بما كان يحدث ف أوقات الجهل والقبلية، كأن الأيام تعد نفسها بدناءةٍ تحسد عليها، يغير جيشٌ على مدينة أو قرية وادعة بغير سابق إنذار، لا يترك لأحدٍ فرصة الهروب والنجاة، إغارة تنقصها الشجاعة بالطبع، رضعت حليب الغدر. بدأت بالخسة والطعن في الظهر، ولا أعرف كيف ستنتهي!
هل تعتقد أنني أبالغ؟
لا يا غالي، ليس من العدل أن تقرر وحدك، تخرجني من مملكتي ذليلةً لمجرد أنك وقعت في الحب، الملوك حين يقعون في الحب يتخذون حبيباتهم الطارئات جواري أو خليلات، وأنت ملك، ملكي على الأقل، وفي مملكتي لا يجب أن تسحب واحدة الكرسي من تحتي لتجلس عليه. .))
.
يتغيّر المفهوم الدلالي للحرب هنا، ويحمل ما يعتمل داخل نفس هذه المرأة المكلومة التي تخاطب زوجها بصفاتٍ يبدو فيها التندر منه ومن مكانته التي يبدو أنها مهددة بالزوال، فهي تخاطبه "يا غالي" فيما يبدو أمامها وأمامنا غير ذلك تمامًا، وقد بدأت تتساقط أقنعته وتتكشف حقيقته التي حرص على إخفائها طويلاً!
هكذا ندور مع مشيرة ورشيد وصديقاته الأربعة اللاتي يتم استدعائهم بشكلٍ غير مباشر، ويخوض معهم القارئ عددًا من المواقف والحوارات والأفكار، يختلط فيها الواقع بالخيال والحقيقة بالوهم، ويمثل فيها وحيد الطويلة برهافته وذكائه المعتاد عالم النساء اللاتي يهديهن هذه الرواية، حتى يصل بنا في الختام إلى نهاية تمثل مفاجأة الرواية التي لايمكن توقعها من جانب، ولكنها تأتي منطقية ومحكمة من جانب آخر.
أصبح غنيًا عن الذكر هنا أن نشير ونشيد بتميز لغة وحيد الطويلة وخصوصيتها، وقدرته الفائقة على اختيار الألفاظ والعبارات الشاعرية المعبّرة بشدة عن حالة البطلة والتراوح في لغتها بين السخرية والواقعية والدرامية في أوقاتٍ أخرى، حتى أني لازلت أراهن على أن كل مقطع من هذه الرواية (وما سبقها) تمثل حالة شعرية فريدة من نوعها، ويمكن للقارئ اختبار ذلك بسهولة.
رواية مكتوبة بذكاء وإحكام، وإن اقتصرت على حالة واحدة، لكنها أمسكت بكل تفاصيلها ودوافعها وحكاياتها وملابساتها، واستطاعت أن تجعل القارئ شريكًا لمشيرة في ورطتها الكبرى وانفعالاتها ومشاعرها، ثم شريكًا في النهاية لرشيد الذي يمسك بكل هذه الخيوط ويبدو كمتفرج آخر معنا، ولكنها النهاية التي تجعلنا نتوقف طويلاً عند الرواية، وربما نستعيدها من البداية مرة أخرى لإدراك ما فاتنا من تفاصيل.