#ريفيوهات
"موسم تقاسم الأرض...فلك الأولين والآخرين"
-للزوم الطرافة والضحك تظهر في بعض الأفلام شخصيات تتحدث بمسميات معقدة "كالأيدولوجيا أو الإمبريالية أو الدوغمائية" في أغلب الأحوال تقال بتعمد أمام أحد العامة، ليظهر من وقعها على عقله علامات البلاهة، فيستعيدها أو يعيد تفسيرها وترميم أطلالها-إذ أنها تهدمت في عقله حينما سمعها- وفق فهمه وثقافته، ومنه تتضح الفجوة بين القائل والمتلقي، والعبرة باستخدام أيهما كمادة للسخرية والتندر "ولنا في الفيلم العربي "فوزية البرجوازية" ومقاطعه المشهورة عبرة"
-والقصد هنا حين ننظر لتلك الفجوة، ندرك أن تلك المسميات على الرغم من كونها مهمة ولها مدلول ما، إلا أنها تعتبر قوالب مجوفة هشة تتفتت بمجرد أن يحرك قائلها لسانه، فضلا عن أنها لا تصل لعقل السامع، وتظل الفجوة بين العالم والجا.هل موجودة بأغراضها إما لإظهار الاستعلاء أو مصدر للضحك كما ذكرنا، ومما يعني ببساطة أن شرط الإفهام هو وجود خط ممتد بين الاثنين، تستقيم عنده المفاهيم والمسميات، لينتقل التجاوب من العقل إلى الروح بشكل متردد، ويدرك المتعلم بحدسه تلك المعاني الغريبة بطريقة سلسة، تلخص الأشياء بذكرى أو بشيء فطري لطيف فيرتقي السامع بمشاعره مضيفا للمعنى ثوبا صافيا كما لخص ابن الرومي معنى الوطن وكيف كونه:
وحبب أوطان الرجال إليهم
مأرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
-لذا كانت تلك السيرة رغم فلسفتها القوية، استطاعت أن تناقش بعض المسميات "كالجمال والحب والاغتراب والوطن والأصل الواحد والتشكل" بصورة سلسة مفهومة، بل تواءم تلك المفاهيم وتصارعها مع الطبيعة "كعرض أمواج البحر وسراب اليابسة وهما يشتبكان ويتوائمان" كإشارة على وجود تلك المفاهيم متأصلة منذ الأزل تشربتها أرواح البشر من أولهم لآخرهم، ومنه نرى خيوط تلك المعاني تتشكل إلى فُلك يحوي جميع الأمم يدور بهم في فَلَك واحد من بداية الأحداث إلى نهايتها "ومنه تساوى شيشنق مع علّيس في هربه لحريته" ومن ذلك كله أجد الجديد والقديم كأنه صورة متطابقة يتساوى فيها مقدار الشعور ورغبة الانصهار مع المعنى، الفرق فقط كما أضافت السيرة ميزة الأخلاف على الأسلاف -إذ أنهم أخذوا توليفة جاهزة من تحليل المعاني مضاف إليها تفاصيل ومعرفة كخيوط الإهاب السحري- وهو ما وثق امتداد الصورة بشكل له العجب.
--بقية زمن
-ومن خلال ثنائية "فُلك وفَلَك" بين السلف والخلف كما ذكرنا، نستطيع أن نرى صورة مفتحة أركانها يتلاشى فيها إطار الزمن، ليبقى منه شيئا بسيطا يعلن من خلاله مصير تلك المسميات والقضايا المهمة من البديهية إلى التركيب والعكس، ونرى ما يثبت ذلك مع تلك السيرة رواية نزيف الحجر للكاتب نفسه، فنجد صورا متعددة كوجود ثنائية آسوف وقابيل والتي أصلها صراع الحضارة مع البداوة في السيرة، وغواية علّيس للزعيم والتي موزعة على قابيل وآسوف بغواية الودان الجبلي، والتشتت وانقطاع الوصل بالأصول كتمزق جسد أم آسوف جراء السيل، أو في الأغلب تشتت ذات قابيل، ومعنى الحرية عند شيشنق المتماثل مع عزلة والد آسوف وغنائه للصحراء "هي الحياة هي النجاة" فضلا عن مسحة الزهد عند تامولي في محاجاته للزعيم عن الناموس والتي هي ذاتها ملخصة في قول الجلولي القادري للسائح "كيف تدعي أنك على دين المسيح وأنت بريء منه؟ لست منه وليس منك"
-ولذا، كان لا بد لكي نرى تلك الصور بامتدادها، أن تصنع عقولنا ترحالا مؤقتا على ظهور المعاني كما اعتاد الأولون الترحال، نازعين شيئا كبيرا من الجمال الذي يثبت الرأي مؤسسا تفسيراته المستقلة والمغلقة على ذاته، وهنا تظهر مسحة الإغواء من مفاهيم ومعانٍ فيتولد الجوع الدائم داخل البشر فتنشأ الصورة
--نصف ملعقة "مزجيات"
"ســقتني كأسَ الهوى من طِيب الخُمَيْرةِ
جلَــــوْتُ بهــا السِّـــــــوى عـن نور البَصيرة
سـقتني كـــــؤوسَ الــحُب محقَتْ أنِيَّتي
صــــرتُ فــــرح ونطـــــــرب تــائهاً بسكرتي"
-محمد بن الحبيب البوزيدي
-ومن نظرة أقرب للصوفية -من خلال الزهد والتخلي في أركان السيرة- نرى ما يجعل رغم امتداد تلك السير أن تصنع مزجيتها الخاصة، تخلد بها من بعض شعور كالحب واللذة "كلذة علّيس لشقيق أمها" قصصا ملحمية "في اليحث عن معنى الحرية والوطن" أو تخلد امتزاج البداوة والحضارة "في مشهد تعانق ودود بين الصحراء والبحر ومن قبله إغواء الغريبة بالزعيم" فيرتقيا بفضل ذلك لصنع سر الكون القائم على التمازج والذي يحول الإهاب الخشن لخيوط ممتدة ما يحتملها أشد السحرة من فرط ما بها
ملاحظة: من خلال قاعدة "لكل شيء إذا ما تم نقصان" يتعطش ذلك التمازج كي يظهر المزيج للنور أو يستمر وجوده لقربان جزاء لوجوده بصورته التامة، أي تتزن الصورة التي تفوق استيعاب النفوس، فكان موت الساحرات ثم تامولي "الذي تواءمت البروق مع خبر موته"، ثم نظرة أهل الأرض لغزاة البحار "إن نظرنا لمداعبة اليابسة والبحر وأصلهم الواحد في سيرة شقيق أم علّيس"، لذا قربان الأخلاف بسقوط تلك الحضارة منطقيا، فتتزن صورة قرطاجنة كحضارة يستوعبها البشر، أو تتحول لإهاب خشن ظاهرا، تتفتح لمن وقع فيه مزيج العشق.
الخلاصة: عمل فلسفي قوي، يعيبه كثرة الوصف في بعض الفقرات، لكنه أسعدني بتعريفاته ومحاججاته الظاهرة بالحوار