مرة أخرى يخوض بنا "ماسيمو جارميلليني" رحلة جديدة بصحبة الطفل "ماثيا" وهذه المرة يحكي لنا عن أحداثٍ معاصرة عشناها جميعًا، وأثّرت فينا بشكلٍ أو بآخر، إنه "زمن الكورونا" و "الإغلاق العام" الذي أصيب به العالم كله، هل ننتظر لسنواتٍ حتى نرصد أثر هذه الحالة الفريدة أم نكتفس اليوم بتوثيقها، لقد اختار "ماسيمو" أن يعرض الأحداث ليس من وجهة نظر الكبار الذين عاشوا وعرفوا خبرات ومواقف أكثر، ولكن من وجهة نظر ذلك الصبي الصغير الذي لا يتجاوز التسع سنوات، ويرصد خلال تلك الفترة ما يراه من منظاره الخاص من علاقات وأحداث ومواقف تدور من حوله، لعل أهمها وأكثرها خصوصية علاقته بوالده التي كانت شبه منعدمة، وفوجئ أن ذلك الوباء قرّب بينهما، بل وجعله يفهم (ربما بعد مرور السنين) كيف أن علاقته بأمه لم تكن بالسوء الذي يراه عليها من طفولته.
لانعرف على وجه التحديد كيف كتب وحكى الطفل حكايته تلك، فبين سطور الرواية بعض العبارات والتعليقات التي توحي بأن الكاتب أكبر سنًا من صبي ذا تسع سنوات، والمؤلف يبدو أنه يرمي إلى ذلك في نهاية الرواية التي يوحي فيها بمرور السنوات وبالتوقيع الذي يتركه في النهاية 2080، وكأن ذلك الصبي تجاوز هذه الفترة وبدأ يحكي عن زمنٍ مضى كما كانت جدته تقول له، وبين هذا وذاك تبدو الرواية سلسلة وشيقة، لاسيما في رصدها لتفاصيل الحياة اليومية البسيطة، وتلك العلاقات الملتبسة بين الجيران وأفراد العائلة أثناء فترة الحظر التي شملت الجميع، وجعلت يعرفون عن أنفسهم وعن الآخرين مالم يتح لهم معرفته في الأوقات العادية.
(يبدو أننا سقطنا في فخ تجربة وجودية زاد من حدتها غياب أوقات التنزه يومًا تلو الآخر. خلف أسوار البيوت المغلقة، لم يجد الأفراد أمامهم سوى تبادل الأنظار على غير العادة، ولجأ البعض الآخر إلى التطلع إلى نفسه أمام المرآة. استغل بعض الحكماء الفترة الراهنة للمطالبة بإعادة العثور على القيم الغائبة، الأمر الذي أشعر الجميع بحالة من الإنهاك العام بعد محاولاتهم المستمرة لاحتمال بعضهم، واكتنفهم الذنب الذي نجم عن الجهل بمغزى عظات الحكماء السامية على الرغم من توهم البعض بعكس ذلك، لكن يبدو جليًّا أن مخزون البشرية الممتلئ بالنرجسية والجشع، لم ينقص منه أي من الأوبئة السابقة على الإطلاق)
لعلها حيلة أخرى يلجأ إليها الكاتب، مثلما فعل في روايته السابقة (أحلام سعيدة يا صغيري) التي اكتشفنا في نهايتها أنها رواية حياته الخاصة وعلاقته بوالدته، هذه المرة يحاول أن يصوغ عالم العلاقات الأسرية في زمن الوباء من خلال عين الطفل الصغير وكيف تغيّرت الدنيا من حوله فجأة.
شكرًا في النهاية للمترجم مينا شحاته على سرعة نقل هذه الرواية إلى العربية، ولدار العربي على مواكبتها الترجمات الحديثة المتميزة.