ليست كل طاعة فضيلة
تأليف
هبة شريف
(تأليف)
تعلمنا أن طاعة القانون واجبة، وأن القوانين أخلاقية في الأساس، وأن الخروج عن القانون هو عملٌ غير أخلاقي. فهل هذا صحيح دائمًا؟ وهل توجد قوانين تتعارض مع الأخلاق؟ من يشرِّع القانون؟ ومن يملك سلطة تنفيذه؟ ومتى يكون القانون صحيحًا وساريًا وملزمًا للجميع؟
في فيلم "الجزيرة" إنتاج عام 2007، من إخراج "شريف عرفة"، وبطولة "أحمد السقا" و"هند صبري" و"خالد الصاوي"، نشاهد كبير الجزيرة "علي الحفني" (قام بدوره "محمود ياسين") وهو يؤكد على أن قانون الأقوى هو الأصح، وينصح ابنه "منصور" (قام بدوره "أحمد السقا")، الذي يؤهله ليكون كبير الجزيرة من بعده، أن يظل قويًا حتى يظل قانونه ساريًا.
استطاع "منصور" اجتذاب الخارجين عن القانون كلهم وإيواءهم في الجزيرة ومنحهم أراضٍ يزرعونها بعد أن توصل لاتفاق مع الحكومة ممثلة في الضابط "رشدي" (قام بدوره "خالد الصاوي")، بموجب هذا الاتفاق، تغض الحكومة الطرف عن الخارجين عن القانون وتجارتهم. وفي المقابل، يتعهد "منصور" وأتباعه بتسليم الإرهابيين للحكومة، وهذا هو الهدف الأهم للحكومة. ولكن بعد عدة سنوات، يأتي ضابط آخر، الضابط "طارق" (قام بدوره "محمود عبد المغني") ليحاول فرض نظام الدولة وقوانينها. فهو يرى أن الدولة هي التي تضع النظام وهي التي لا بد أن تحكم، ولا يمكن أن يكون للأفراد قوانينهم التي لا تخضع للدولة. يستمر الصراع بين قانون الدولة وقانون الأفراد ولا ينتهي، حتى عندما يُقبض على "منصور". فالفيلم ينتهي نهاية مفتوحة تؤكد على بقاء الصراع للأبد؛ فيختفي "منصور" وهو في طريقه إلى قاعة المحكمة بعد تبادل إطلاق النار، ولا يعرف أحد إلى أين ذهب، كما نشاهد ابنه "علي" وقد صوَّب نظراته على العميد "رشدي"، كأنما ينبئنا أن الصراع المستقبلي سيكون بينهما.
القانون هو بالفعل قانون الأقوى، الذي يستطيع فرضه وتنفيذه وعقاب من يخالفه. وعلى الأضعف الامتثال لهذا القانون وطاعته. ولكن في أحيانٍ كثيرة، تتغير علاقات القوة ومواقعها، فمن كان قويًا من قبل يضعف، ومن كان ضعيفًا يقوى، ومن كان غير قادر على فرض شروطه من قبل يفرضها فيما بعد.
يشير عالم النفس السويسري "أرنو جروين" Arno Gruen في كتابه "ضد الطاعة" إلى دراسة قام بها المؤرخ الروسي "چون بوشنل" John Bushnell عن أداء الجيش الروسي أثناء الثورة الشعبية في 1905 و1906. فقد وجد "بوشنل" أن الجيش الروسي كان يغير ولاءه سريعًا في هذه الفترة، فحارب المتمردين في الفترة من يناير حتى أكتوبر 1905، ثم انضم إلى جانب المتمردين بدءًا من نهاية أكتوبر من العام نفسه حتى بداية ديسمبر، ثم عاد ليحارب المتمردين مرة أخرى منذ نهاية ديسمبر 1905، وفي الفترة من مايو وحتى يونيو 1906، عاد أفراد الجيش لينضموا إلى الثوار مرة أخرى. وفي نهاية يونيو، بدأوا مرة أخرى في الانضمام إلى صف النخبة الحاكمة ليعودوا ويحاربوا الثوار( )، أي أن الجيش الروسي غير ولاءه خمس مرات من النقيض إلى النقيض في خلال عامين فقط. هنا يؤكد "بوشنل" على أن هذا التغير الدائم في أداء الجنود الروس وولائهم لم يكن له علاقة بانتمائهم السياسي أو انحيازهم الفكري، فالعامل الحاسم في تغير ولائهم كان تقييمهم لمواقع السلطة وتغيرها، مما استلزم تغيرًا في ولائهم. فعندما كانوا يعتقدون أن السلطة قد أصبحت في يد الثوار، كانوا ينضمون إليهم، وعندما كانوا يرون السلطة تنتقل لتعود مرة أخرى إلى يد النخبة الحاكمة، يعودون لإظهار الولاء لها، وهذا لأن السلطة، أيًا كان من يمثلها، هي ما تعطي الناس الأمان. وهم يطيعونها خوفًا من فقدان الشعور بذلك الأمان.
بدأتُ هذا الكتاب وأنا في ذهني أن أكتب عن الكرامة ووسائل الإذلال، ووجدت نفسي في النهاية أنحرف عن هذا الموضوع ليستهويني موضوع الطاعة والامتثال للقانون، حيث وجدت أن العقاب في حالة الخروج عن القانون يحمل في أحيان كثيرة بعض المهانة وامتهانًا للكرامة عندما يتعرض من خرج على القانون للعقاب من قبل السلطة التي فرضت القانون. ومن يفرض القانون ليست فقط السلطة السياسية، فقد تكون السلطة مجتمعية، أو سلطة الأهل، أو سلطة الجماعة التي ننتمي إليها؛ سواء كانت جماعة أصدقاء أم تنظيم سياسي أم مدرسين في المدرسة أم أساتذة في الجامعة. ولاحظت أن عديدًا من وسائل العقاب في العصور ما قبل الحديثة صاحبها نوع من الإذلال كترهيب لمن خالف القانون ولمن يشاهد هذا الإذلال، فيصبح الشخص المدان المعاقب عقابًا علنيًا مذلًا أمثولة لمن تسول له نفسه الخروج عن القانون.
في كتابها "سياسة الإذلال: مجالات القوة والعجز"، تشرح المؤرخة الألمانية "أوتا فريفرت" Ute Frevert أن العقاب الذي يستهدف الإذلال والخزي هو ممارسة لها جاذبية عند صاحب السلطة "ولكل من يطمح إلى السلطة ولكل من يصارع من أجل السلطة". وتؤكد أن وجود هذه الممارسات تذكرنا أن الطموح إلى المجتمع "المهذب" الذي لا يسمح بإذلال أفراده علانية من قبل السلطة ما زال حلمًا بعيد المنال في بعض مناطق العالم، ولا تختلف وسائل الإذلال في العالم عن بعضها بعضًا، فكلها كأنما تنهل من مصدر واحد، وتعتمد على موقف العجز الذي يكون فيه الشخص المعرض للعقاب المذل( ). وهنا نتوقف لنتساءل عن القانون والامتثال له وطاعته والعقاب الذي يطال من يخرج عليه: لماذا تؤدي طاعة القوانين أحيانًا إلى عقاب مذل ومهين؟ وهل يقبل الإنسان الإذلال بسهولة؟ وهل ينفذ صاحب السلطة القانون متعمدًا في بعض الأحيان إذلال من يعاقبه، وهل يقوم بذلك بسهولة أيضًا أم أن بعض أصحاب السلطة يشعر رغم ذلك بالنفور من هذه الوسائل؟
هذا الكتاب حول القانون الأخلاقي وقانون السلطة، وكيف ومتى نمتثل لقانون السلطة، ومتى أصبح عقاب الخروج على القوانين إذلالًا وامتهانًا للكرامة. ويناقش الكتاب الوطنية التي تفرض الامتثال لقوانين الدولة، وكيف تتحول الوطنية عند بعض الناس أحيانًا لتساوي الطاعة. وتطرقتُ أيضًا إلى الثورات بوصفها خروجًا عن القانون، وتساءلت متى كان عدم طاعة القانون ضرورة، ومتى يصبح عدم الامتثال للقانون فوضى يقوم بها الثوار، وكيف يتحول الثوار أنفسهم فيما بعد إلى السلطة التي تسن القوانين الجديدة وتفرض الطاعة وتعاقب مَن يخرج عن القانون. وحاولت أن أشرح أيضًا أن حتى المجتمعات الليبرالية التي يقال إنها تتسم بهامش حرية كبير في الأسواق المفتوحة وحركة رأس المال وتداول السلطة وفي الحياة الشخصية أيضًا، تظل مجتمعات لا يفلت الإنسان فيها من قبضة القانون حتى لو كان القانون في غير صالحه.
وأكرر أنني دائمًا أكتب من منظور الدراسات الثقافية، أي أنني لا أتعامل مع النظريات الفلسفية والسياسية والاجتماعية إلا من خلال ما تعكسه التعبيرات الثقافية من كتب وأفلام وبرامج تليفزيونية وإعلانات تجارية أيضًا. وأنا أعرف أن هذا الاتجاه ليس اتجاهًا معروفًا لعديد من القراء، ولكنه اتجاه ترسَّخ بالفعل في الأكاديميات الغربية. خاصة بعد أن أصبح النقد الأدبي وحده غير جاذب للقراء، وأصبح من الضروري أن يتغير هذا الحقل ليصبح أكثر قربًا من القارئ وأكثر انفتاحًا على الحياة اليومية ومنتجاتها الثقافية.