ربما لا يختلف أحد على أن إعادة قراءة الأحداث والشخصيات التاريخية من الأمور المطلوبة دائما في حياة أية أمة من الأمم، وذلك بما قد يستجد من وثائق كانت مخفية عن أعين وأيدي المؤرخين السابقين، أو زوايا أخرى كانت مهملة لم يلتفت إليها الباحثون، ضاعت أو تورات أو أُهملت لسبب أو أخر.
وفي الحقيقة هذه مهمة صعبة للغاية، خصوصا إذا ما تصادمت مع ما استقر في الوجدان الشعبي من زمن طويل، لكنها بالطبع ليست مستحيلة، وحتى وإن كانت مستحيلة فهي تبقى دائما مطلوبة لأنها - بجهد وبحث حقيقي بعيدا عن الآراء الشخصية - خدمة للأمة ولتاريخها.
ولا يخفى على أحد أن هناك - منذ فترة ليست بالقليلة - محاولات يقوم بها بعض الباحثين المتخصصين، وكذلك بعض الهواة (خصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي)، حتى وإن كان كثير منها يحمل بعض التجاوز والشطط والمغالاة في التحيز لفترة تاريخية معينة أو شخص بعينه (ولابد من الإقرار أيضا أنها محاولات لا تخلو من بعض الكوميديا والكذب المتعمد لإثبات وجهة نظر محددة).
ومن كل ذلك كنت حريصا على قراءة كتاب «ضد التاريخ: تفنيد أكاذيب السلطة وتبديد أوهام الشعب» للباحث الكبير، مصطفى عبيد، الصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة.
يقول الباحث في مقدمة كتابه: "هذا الكتاب محاولة تدبر في تاريخنا، تنطلق من نفي الحصانة ونبذ المسلمات المتوارثة جيلا بعد آخر". واذن نحن أمام محاولة جديدة لإعادة قراءة - أو كتابة - بعض أحداث وشخصيات التاريخ المصري (وهي بلا ترتيب: مصطفى كامل وإسماعيل صدقي ومحمد نجيب وسيد قطب وعبد الحليم حافظ وصلاح سالم وسليمان خاطر، وكذلك معركة الكتاب الأسود بين النحاس باشا ومكرم عبيد وخروح اليهود من مصر بعد تأميم قناة السويس وحرب العدوان الثلاثي وموقف بعض المثقفين المصريين من اغتيال السادات والإرهابي القاتل خالد الإسلامبولي).
لكن أولى مشكلات الكتاب تبدأ مع عنوانه فهو يوحي بأنه بحث تاريخي يقدم - بالوثائق والدراسة العلمية - رؤية مغايرة لما هو شائع، وفي الحقيقة أن معظم الفصول - ما عدا فصلي محمد نجيب وقصة الكتاب الأسود - هي رؤية وقراءة شخصية للكاتب بشكل مباشر، وهذا أضعف الكتاب كثيرا.
كذلك يحتار القارىء مع المنهج العلمي الذي قدم به الكاتب قراءته للتاريخ، فهو مختلف في كل فصل، مرة يقدم تحليلا نفسيا للشخصية أو الحدث، ومرة يقدم رأيا شخصيا مباشرا دون دليل أو بحث.
بعد الضعف يأتي التناقض، حيث يجد القارىء أن بعض الآراء في فصل ما تتعارض مع ما جاء في فصل سابق، كما في فصل إسماعيل صدقي، الذي كان يحتقر الشعب (الغوغاء كما كان يسميهم) ويرى أن الزعيم/صاحب القرار لا ينبغي له أن ينقاد وراءه، بل العكس حيث يقوده هو، في حين أن الكاتب أشاد بزعامة سعد زغلول وبعده النحاس باشا لأنهم كانا يعبران عن الشعب (الغوغاء).
كذلك - كما جاء في فصل عبد الحليم حافظ - أنه قدم كل الأعذار للشعراء (صلاح جاهين مثلا) لمشاركتهم في الدعاية الناصرية، ولم يقدم مثلها للمطرب/المغني، في حين أن الاثنين - إذا جاز التعبير - كانا ضحية، فعبد الحليم لم يكن أبدا مسئولا - بصفة مباشرة - عن فشل النظام الناصري.
النقطة الثالثة هي أن الكاتب أهمل - عند التعرض لمصطفى كامل وصلاح سالم وعبد الحليم حافظ وسليمان خاطر - للظروف التي أحاطت بكل واحد فيهم، وهذا أمر لابد منه عند التعرض لأي حدث/شخصية تاريخية، فلا يمكن الحديث عنهما بمعايير الحاضر.
على العكس - كما في فصول اليهود المصريين وقتلة السادات - فإنه يقدم قراءة وتحليلا منطقيا مقبولا للحدث.
في العموم هي محاولة مهمة من الكاتب والباحث، تستحق التقدير، وهي بالتأكيد واحدة من المحاولات الجادة لإعادة قراءة التاريخ المصري.