نزاع قد انتهى بنصرة الآن!
في رائعة جديدة التقيت مع الروائية لنا عبد الرحمن، ليست روايتها الأحدث، وإنما هي الرابعة في قائمة أعمالها الطويلة نسبيًا.
تفتتح روايتها بيقظة مفزعة لبشرى إثر حلم لها بالقاهرة التي يغمرها ثلجٌ أبيض، وهي تركض على أرض مغطاة بالبياض، ثم تأكل نتفًا من الثلج، فتتجمَّد، وتصير تمثالًا.
نعم، يخيفها الحلم، ترعبها فكرة الإحساس بالحياة والعجز عن الحركة، ثمة موت أو تجمد في الأمر! أهذا ما يكون عليه الموتى لحظة مفارقة الروح للجسد، واعين لكل ما يدور حولهم، لكنهم عاجزون عن الفعل؟!
عادة ما يلازم الموت الشعور بالهيبة والرهبة لكن حتى حين كتبت هي عن الموت، تمازجت المشاعر في حضرته التي تكللها المهابة وتزاحمت فيما بينها ما بين تعاطف وجمال وشجن واصطفت جنبًا إلى جنب للشعور بالرهبة.
موت غلب عليه رائحة البنفسج المسحوق مع الفل، لا موت برائحة العطن والعفن.
إلا أن الكاتبة في عملها هذا قد انفردت بتفعيل تقنية سردية ليست بالسهلة بتاتًا حين سردت حياتين متباعدتين زمنيًا، يعود الفارق الزمني بينهما إلى حوالي الستون عامًا.
غير أن التنقل أتى في سلاسة ورشاقة تكاد أن تجعل القارئ يتوحد معهما تماما ليشعر بحرقة تعلو صدره أحيانًا حين يستشعر خطر ما!
صوت ترويه الأميرة المصرية «نورجهان» القاطنة بقصرها، قصر اللؤلؤ على ضفاف النيل، وزواجها من أمير تركى لم يستطع أن يكف عنها أذى مؤامرات نساء قصره ولا استطاع أن يدفئ قلبها من برودة وصقيع طقس وجبال بلده ولا تمكن من محو آثار إحساس الضغينة الذي لازم أي تعامل من نسوة القصر لها.
فأصابتها مؤامرات الحريم بأسقام النفس والجسد وأحست بصغر النفس لتعود من جديد لقصرها المحبب على ضفاف النيل الطيب ولتنفض عنها أسباب سقمها لتُشفى تدريجيًا وتعود لحالتها الأولى حتى يُوءد حبها ليوسف برفضها للسفر إلى الخارج في معيته وتنهي حياتها طعنة خبيثة!
من وكيف سجنه شبحها لما يزيد عن الستون عاماً!! هذا ما يتضح بسير الأحداث.
وهناك صوت آخر، ترويه بشرى السورية من جهة محمود الرفاعي، الأب، والمصرية من جهة نبيلة، الأم.
بشرى التي ولعت بشخصية الحلاج وأشعاره منذ كانت تقضي في مكتبة أبيها ساعات طوال ينشغل فيها ببيع الكتب للزبائن حين فشل في مهنته كمحامٍ حتى أنه لُقب بالمحامي الذي لم يربح قضية واحدة قط!
واتخذ قراره بتحويل محل والده الذي تميز بصناعة فن الأرابيسك إلى مكتبة تزدحم رفوفها بكتب تختلف نوعياتها، وتزخر بمختلف المعارف.
والتي انتهت زيجتها من ناصر سريعًا بعد شهور معدودة،
فكان ناصر يخشى الفقد لأنه اعتاد على فرديته، فبعد موت أمه وتشتت عائلته، صار عنده رهاب الارتباط، يخشى أن يؤذيه أي تورط عاطفي. لذا كان يُعلي من شأن الرغبة، على حساب العاطفة، فظل يقاوم تعلقه ببشرى وحميمية الحياة المشتركة ولم تستطع هي البقاء فتم الانفصال!
تعمل بشرى في جرافيك رسوم الأطفال ولوحات تفاصيلها تحكي قصة الطفلة نور التي تتشابه مع بشرى ذاتها ورفيقها رام.
تعيش أمومتها المسلوبة منها في تلك اللوحات، تجتر ذكرياتها المضببة وهي ترسمها.
بدأ كل شيء منذ قررت نبيلة بعد وفاة زوجها في سوريا أن تعود بابنتها إلى موطنها من جديد، فباعت الدار التي قطنتها وحملت ما ظلت تكتنزه من مفروشات راقية لتجهيز صبيتها، وببعض المساعدة استطاعت الحصول على شقة في بيت في حي المنيل، معقل الباشوات في زمن فات.
وبعد رحيل أمها بعد عودتها لمصر بتسعة أشهر، قررت بشرى السفر لدمشق من جديد لتلتقي بصافي الذي قاده القدر في تلك الليلة إلى بيتها المباع ليبقى بالنسبة لها كالشيخ للمريد.
بعدما سافرا كلا منهما إلى حيث يقطن، تبادلا الرسائل التي حوت سجالًا مكتوبًا بأحرف من نور، لا تخلو من فلسفة ولا تخلو من إشارات ومداخل للتعافي.
لم تعش بشرى حياة نورجهان فقط، فقد كان من قبلها سولاي، تلك الغجرية الراقصة التي رافقت طبيبًا عربيًّا لم يتمكن من إبعاد الموت عنها فماتت سريعًا بعد مرض عضال ألم بها.
إلا أن بشرى لم تكن تحكي عن الحياة الأخرى التي تراها، أو تعيشها، فلن يصدقها أحد لو حكت قصة امرأة تشبهها، لكنها لا تعرف من تكون، ولا تتمكن إلا من تلمس حكايتها عن بعد، بلا قدرة على الاقتراب الكافي الذي يضمن معرفة الحقيقة.
تراها كصورة يغشيها الضباب وهي في حديقة قصرها أو في حجرتها تكتب في دفتر مذكراتها، أو حتى وهي تحرق سرير مرضها لتتخلى عن خلاياها التي حملت المرض وتساقطت لتلتصق بسريرها.
ظلت تبحث بشرى كثيرًا، إلا أن الجدران التي تشكلت في معظم أحلامها العالقة بين الحلم واليقظة كحياتها تمامًا، العالقة بين زمنين لم تكن بذاك البُعد، فكانت على مقربة شارعين من منزلها، وفي ذلك الركن القصي في وجدانها.
أسرني الثلث الأخير من الرواية وما حواه عن فلسفة الموت والحياة الأخرى، ستجول بخاطرك الأفكار مقتحمة إياك، تجبرك على القبول، فما لك حيلة في الرفض أن تكتمل الحياة باندماج عناصرها ومعاودتها من جديد ربما في صور مختلفة.
كما أسرتني تعبيراتها المُعبرة الجزلة، ووجدتني نادرا ما أمرر صفحة دون أن أستخلص منها اقتباس أو أكثر!
ألهذه الدرجة استطعتِ التعبير عم يجيش بداخلي من مشاعر تجاه الحياة والموت، وألهذا الحد كنتِ متمكنة من اختيار أدق الألفاظ وأبسطها!
تناولت في روايتها مرور سريع على اختلاف حال مصر في السابق وتحولها، وقت كانت نبيلة أمها تعيش وتمرح، ووقت رجوعها حين امتلأت شوارعها بأكداس من القمامة والفضلات.
بتحول القصور التي زينت شوارعها إلى خرائب مهجورة سرعان ما يلجأ مالكوها إلى بيعها لينبت فوقها عمارات حديثة تفتقر إلى الذوق والجمال كالزرع الشيطاني تمامًا! وتلك الكباري التي يقبع تحتها ثلة من الرفاق يشمون الكلة أو يتقاسمون فيما بينهم ما تحصلوا عليه من مال قد استجدوه.
رسُمت الشخصيات بدقة حتى في الشخصيات الفرعية منها، لا الرئيسية فقط.
فكيف يمكنك ألا تعجب بشخصية أسماء وأن تستنشق عبق البخار المتصاعد من مطبخها الدافئ.
كيف ألا تستشعر الطيبة والرفق في شخصية ناجي ورغبتك في التجول بصحبته وهو ممسكًا بكاميرته يلتقط الصور التي تستوقفه، العمة الشديدة الحرص على الدار، المتفانية في النظافة والطهي الراغبة في أن تلوذ بالسلطة والتملك على الدار وأن يكون الكل في احتياج لها، الكثير والكثير من الشخصيات الآسرة التي تشعر بوجودها بالقرب منك وأنك تراها رؤيا العين.
دعوني أستعرض معكم بعضًا مما أعجبني:
❞ الرغبة أكثر رحمة من الحاجة إلى المحبَّة، تأتي الرغبة وتمضي بلا عناد، بلا مراوغة، لكن التوق أمر شاق، وشقي على النفس. ❝
❞ في الوحدة إخلاص للذات، أكثر وعيًا من البقاء في حالة ملتبسة، تحمل ثنائيات متناقضة. ❝
❞ "لا تبحثي في ما لا طائل منه، لأنك ستسيرين في طريق مسدود، أمضيتُ عمري وأنا أبحث من دون الوصول إلى نتيجة." ❝
❞ حين تصفع الباب بقوَّة لحظة دخولها، كما لو أنها تودُّ إنهاء علاقتها مع العالم الخارجي ❝
❞ ليس علينا النظر إلى الوراء، بل في أعماقنا كي نخوض في العدم. إن معرفتنا بالعدم تجعلنا قادرين على معرفة القيمة الحقيقية للحياة، والسعي المستمر لمعرفة دورنا فيها. ❝
❞ العالم الخارجي ليس إلا لعبة مكعبات كبرى ثمة من له القدرة على تشكيلها وتدميرها على هواه. ❝
❞ وكما الماء سر الحياة، هبة سماوية تسيل من الأجساد لتمنح النشوة والخصب؛ تلتهم النار السقم والألم، تجعل الوجع رمادًا. ❝
❞ "إن الزواج تجربة لا يمكن أن يمحوها الإنسان من تاريخه مهما كان وقتها قصيرًا." ❝
❞ "إن الزواج مهما كانت سيئاته أفضل تجربة للنضج السريع." ❝
❞ نحن لا نملك مفاتيح أقدارنا. بل نمسك بأيدينا نسخًا وهمية من خرائط نظن أنها ستقودنا إلى الدرب الصحيح، وبعد أعوام كثيرة تضيع هباء ❝
❞ كنت أقف بعيدة دومًا عن كل الأمور الغيبية التي لا نملك عليها دليلًا.لا أنفي، ولا أثبت، بل ليس لدي رغبة لتقصي الحقيقة في الخبايا التي لا يجدي البحث فيها سوى مزيد من التيه ❝
❞ إن علينا تقبل الموت، واعتباره قدر حتمي، لكن الأهم أن لا نقف، وأن نزاول حياتنا. ❝
❞ كنت أقف بعيدة دومًا عن كل الأمور الغيبية التي لا نملك عليها دليلًا.لا أنفي، ولا أثبت، بل ليس لدي رغبة لتقصي الحقيقة في الخبايا التي لا يجدي البحث فيها سوى مزيد من التيه ❝
❞ إن علينا تقبل الموت، واعتباره قدر حتمي، لكن الأهم أن لا نقف، وأن نزاول حياتنا. ❝
❞ الناس تغلي في قدر كبير، على نار هادئة، وتحت شمس عنيدة، يذوبون على مهل، من دون مقاومة. ❝
❞ القاهرة تحتاج إلى ثلج يغطيها تمامًا، ثلج يوازن الأشياء لتعود إلى طبيعتها. ثلج يخفف من حرارة الناس، يذيب طبقات السواد التي تغطي أرض المدينة، ليحل مكانها لون أبيض ناصع، وتخرج من شقوق الثلج قاهرة يافعة ببرعم أخضر نقي يقاوم طبقات الشحم التي سدت مكان خروجه ❝
❞ الحب حالة مرهونة بأسباب الاستمرار والزوال ❝
❞ الروح تعود للحياة كي تُتِم أمرًا ما لم تتمكَّن من إنجازه في حياتها الماضية، أو أن تلك الروح ماتت عنوة، وعادت لتكشف حقيقة ما. ❝
❞ كيف يكون البشر مجبرين إلى هذا الحد في تكرار آلامهم وأحزانهم، وعلاتهم، وأمراضهم مرات ومرات. أي سخط هذا، لا يملكون فيه الرفض أو القبول ❝
❞ "إنه لسر العالم أن كل الأشياء باقية ولا تموت، بل تحتجب قليلًا عن الرؤية ومن ثم تعود ثانيةً، لا شيء يموت، الإنسان يظن أنه يموت ويتحمَّل مهزلة المآتم والتعازي، وها هو يقف متخفِّيًا في مكان آخر ينظر من النافذة حيًا معافى❝
❞ من الطبيعي لبعض الأشياء أن تخفت ثم تعود للظهور ثانية، ولكنها لن تكون نفسها أبدًا.. ❝
❞ وهل من الممكن أن تنتقل ذكريات إنسان ميت لإنسان لا يعرفه أبدًا عن طريق العقل والتخاطب بين العقول؟" ❝
الرواية ١٨٧ صفحة مكتوبة بالفصحى.