رأس الحسين/ أسئلة التاريخ … أسئلة الدم
د. عزالدين جلاوجي✼
قبل جس نبض الرواية أرى لزاما التوقف عند محطات من جهد الأديب عبدالله خليفة، رغبة في إضاءة بعض من جوانب حياته للمتلقين.
عبدالله خليفة كاتب وأديب بحريني كبير، ولد عام 1948، كتب في القصة والرواية والمقالة وله إسهامات فكرية كبيرة، توفي رحمه الله سنة 2014، عن عمر ناهز 66 عاما.
العتبة الكبرى / الرأس الهاجس:
اعتبر رأس الحسين هاجسا كبيرا في كل التاريخ العربي الإسلامي، على اعتبار أنه منارة للنضال والتضحية، وعلى اعتبار أنه الرمز الأكبر لمنهج النبوة، غير محصور في منهج جده عليه السلام فحسب، بل هو منهج النبوة منذ أن اصطفاها الله تعالى، وهو منهج محفوف بالتضحية وتقديم القرابين.
والمتلمس اليوم بحثا عن هذا الرأس لا يجد ركازها في مكان بعينه، بل ركزتها الأمة في كل مكان، وأقامت لها مقاما كريما في كل مَصر لتكون علما على علم، نجدها في العراق والشام ومصر.
بل إن المتتبع لتبني الأسماء يجد طغيان الحسين والحسن وعلي، في واقعنا الاجتماعي منذ الفتنة الكبرى إلى يوم الناس هذا، ولا نكاد نسمع اسم معاوية ويزيد إلا ما ندر، إنه انتقام بشكل ما، بل بشكل فضيع، كأنما هو سعي لمحوهما من الذاكرة تماما، في حين تحولت الأسماء الأولى إلى أعلام حملها الخلف ويحملها السلف إلى نهاية التاريخ.
مثلت لفظة الحسين داخل الرواية هاجسا مركزيا تحولت معها إلى تيمة رئيسية، حيث ترددت مئتي مرة بل وأصرت على الحضور بداية من العنوان، الذي يعد (عنصرا من أهم العناصر المكونة للمؤلف الأدبي، ومكونا داخليا يشكل قيمة دلالية عند الدارس، حيث يمكن اعتباره ممثلا لسلطة النص وواجهته الإعلامية)(10)، إن ظهور الكلمة التيمة في العتبة يعطيها وقعا أشد وتأثيرا أقوى، ويمنحها السيادة والسيطرة والأولوية، ويمكن أن نسميها الكلمة العمدة على قياس العمدة لدى النحاة، إن (الكلمة/ العنوان... لها محمول استثنائي)(11)، وقد وردت في الرواية عمدة مرفوعة في تركيب الجملة، معرفة بإضافتها للحسين، وهي إضافة تمنحها تميزها ومكانتها وقيمتها، كان للروائي أن يعنون نصه بلفظة الرأس، إلا أن التعريف بالــــ هنا يحيطها بهالة من الغموض ويمنحنا فرصة تأويها ونسبتها، غير أن الروائي منذ الوهلة الأولى قطع علينا ذلك الطريق وكفانا جهد التأويل حين ربطها بالحسين، الذي بقدر ما يحيل عليه في ثقافتنا وتاريخنا، فهو يحيل أيضا على الحس والحسن والحي والحَيْن/ المحنة، وما شئت من المعاني في لغة العرب، والتي اكتنز بها هذا الاسم.
ولا يكتفي الكاتب بالعنوان، بل نرى حضور كلمة الرأس مباشرة في الجملة الأولى من النص، كأنما هو في عجلة من أمره كي يثبتها في الأذهان «انتزعتْ يداهُ الرأسَ»(12)، جملة تفوه بها الشمر وهو يفصل رأس الحسين عن جسده، وتتدافع إليه الأيدي الآثمة رغبة في الظفر بالرأس للظفر بعرض الدنيا، فيعاود الشمر الصراخ في الجميع «أنا الذي قتلته ولي هذا الرأس الثمين!» (13) .
غير أن الدم يتحول نافورة، ويجري موجا هادرا يثير الحيرة والأسئلة، هي بالأساس أسئلة التاريخ وأسئلة الدم، في أول سؤال يستيقظ الضمير على لسان حمزة، وهو الشخصية التي خلقها عبدالله خليفة لتمثل صوت الضمير، صوت الأمة التي أراد حكامها أن يقزموا وضيفتها في التهريج، ولكنه سؤال يحمل إدانة كبرى للحكام/ حكام بني أمية بالأساس «لماذا ساقنا الخليفة يزيد إلى هذه الأرض الترابية والإحاطة بهذه العائلة الصغيرة والجماعة الضئيلة؟! هذه الأسرة التي حاصرناها طويلا وهي لا تستحق كل هذا الحصار العنيف!»(14)، عبارة قصيرة تعتلي صهوة النص وتشرق في طليعته لكنها تفصح عن كل شيء، عن الإدانة كما أسلفنا، «لماذا ساقنا الخليفة يزيد إلى هذه الأرض الترابية»(15)، عن الكبرياء في العترة الطاهرة، التي لم يدفعها ضعفها العددي وقلة حيلتها إلى الاستسلام «بهذه العائلة الصغيرة والجماعة الضئيلة؟! هذه الأسرة التي حاصرناها طويلا وهي لا تستحق كل هذا الحصار العنيف»(16)، عن تأنيب الضمير الذي تحيل كلمة «لا تستحق»(17).
وفجأة يتحول التأنيب إلى حيرة حين تنتقل الأحداث من الواقع إلى الغرائبي والعجائبي، وحين تختفي الجثث فجأة، ولا يجد حمزة مناصا من أن يقلب طرفه حائرا في كل مكان «أين ذهب الضحايا؟»(18) «أين رحل القتلى؟»(19) سماهم ضحايا في جملته الأولى، وسماهم قتلى في الثانية، لكنه لم يجرؤ أن يصفهم بالموتى، فالشهداء يقتلون ولكن لا يموتون، والصالحون يقدمون أنفسهم قرابين لله تعالى ليخلدوا عنده، وهذا يحيلنا على إبراهيم عليه السلام وهو يقدم ابنه، فهل هي إشارة للتماثل في بيت النبوة بين إسماعيل والحسين
عليهما السلام؟ وهو تناص واضح مع قوله تعالى «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون»(20).
ويذهب الخيال بحمزة حين يتصور أن الموتى قد مضوا سريعا إلى السماء مستعيرين أجنحة، كأجنحة الطيور، «قد مضوا بسرعة، أو أن أرواحهم استعارت أجنحة الطيور واندفعت في السماء تشكو، وأن سهاما من النور والنار سوف تتدفقُ من العلياء وتثقب جلودهم!»(21)، وهو ما يحيل مباشرة على قصة جعفر الطيار عليه السلام.
إذن هي جملة من الأسئلة يستهل النص بها حضوره، قدمت منذ البداية تصورا عاما للمنحى الذي ستأخذه مئات الأسئلة التي ستأخذ برقاب بعضها إلى نهاية نص الرواية يكون محوراها الأساسيان، الحسين مجللا بنور الحق، ويزيد مكبلا بأغلال الباطل.
تتناوب الرواية مجموعة من الشخصيات كلها ذات صلة بالتاريخ، إلا شخصية حمزة الذي كان مهرجا بالقصر الأموي، ثم يغامر للحصول على رأس الحسين دون سيف يحمله، طمعا في أن ينال بذلك قسطا من المال يبني به مستقبله، وتنتهي به الرواية ثائرا ضد الظلم الأموي منتصرا لحق آل البيت، وهو بذلك يمثل الضمير الجمعي للأمة التي أراد يزيد أن يجعل منها قاراقوزات في قصره، فشحذها الحسين بطاقة خلاقة لتنتفض ضد الظلم، ليس في تلك الحقبة فحسب، بل في كل ما تلاها وما يليها من حقب.
غير أن الرواية كلها تقوم على شخصيتين محوريتين، الشخصية الأولى وهي الحسين ولا يمثلها داخل الرواية كلها إلا رأسه، الذي تتناوبه الحراب والأيدي الآثمة من كربلاء إلى دمشق، والثانية هي شخصية يزيد التي لا تبرح قصر الخلافة، وفيما يلي بسط لحضورهما داخل الرواية.
1ـــ رأس الحسين/ منارة فوق رمح:
تنطلق أحداث الرواية مباشرة من قتل الحسين عليه السلام وقطع رأسه، ومعنى ذلك أن الروائي يضرب صفحا عن كل ما سبق هذه الحادثة من أحداث فصلت فيها كتب التاريخ، بل ويضرب صفحا حتى عن جسد الحسين، «يا سيدي الجثة لم نعثر لها على أثر، كأنها سرقت، أو خطفها أشباح أو جن أو بشر، فجأة توارت في الظلام..!»(22).
على اعتبار أن الحسين ليس جسدا بقدر ما هو رأس/ فكرة، ولم يفعل الموكب الآثم وهو يتحرك بالرأس مرفوعة على رمح طويل سوى أن يجعل منها راية ستبقى مرفرفة ترسم الدرب للصادقين في تلمس شمس الحق «حدق جعدة بغضب في راية الشمر حيث كانت الرأس مرفوعة على الرمح، والشمر يزهو بقوته ورمحه الذي يحمل الجائزة الكبرى!»(23).
وما تكاد العصابة تتحرك حتى ينتقل بنا الكاتب من عالم الواقع/ التاريخ إلى العالم العجائبي، حين يبث الروح في الرأس، فإذا بها تنظر وتبتسم «والتفت فوجد رأس الحسين تنظرُ إليه وتبتسم!»(24)، بل وتتكلم «الجثة التي بلا رأس تتكلم»(25)، ورغم أن الرأس كانت تحاور حمزة بالأساس، «هل تعرف يا شمر بأن الرأس تكلمني، هذه التي تحملها على رمحك القاسية تشير إلي بعينيها وثمة نورٌ غريب يتدفق منها!»(26) مما يجعله خائفا مضطربا طول الطريق بين كربلاء ودمشق، فإن ذلك ينتقل إلى غيره من المقاتلين، حتى الشمر الذي لاحظ اضطراب حمزة فسعى لمعرفة الحقيقة منه، يقول حمزة للشمر: «غريبة هذه الأمور، لأن أفرادا من الجيش صاروا يسمعون هذه الرأس وهي تتكلم، بعد أن حاصرتها يا شمر وقطعت الماء عنها وأطلقت عليها كل هذه السهام وطعنتها بكل السيوف لا تزال تتكلم، وتحدث الجنودَ والناس...»(27).
يتعجب الشمر لما يسمع وعجل يتفقد الأمر «أوقف الحصان وأنزل الرمح وقرب الرأس الملفوفة بالقماش، وطالع الوجه المفتوح، وكان الغبار وكانت ظلمة كبيرة مفاجئة، وكانت صرخة من الشمر ، الذي أسقط الرأس وهو فزع، صرخ: كأن شيئا عضني!»(28).
لاشك أن ما وقع فيه الشمر كان بفعل إحساسه العميق بما ارتكبه ضد الحسين، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصير الرأس أفعى، غير أن وهم الشمر وقناعته بجرمه أوقعه في ذلك، وتوهم هذه العضة المؤلمة، وهو مما بقي في ضميرنا الجمعي إلى اليوم، الإحساس بالذنب الذي آلم أولئك الذين ارتكبوا الجريمة أو سكتوا عنها في حينها، انتقل إلى أحفادهم الذين ظلوا بطرق مختلفة يسعون إلى التطهر.
كان يمكن للكاتب انطلاقا من مأساة الحسين أن يجعلها باكية شاكية، شاتمة لاعنة، محرضة على العنف والانتقام، عبر تحريض الناس، لكن ذلك كله لم يحدث، إنها رأس شامخة مكابرة هازئة من الجرح، لا تحسن إلا أن تنشر المحبة والسلام، تحاصر الحقد بالحب، والضغينة بالتسامح، والغضب بالابتسام، تمد سنا الحلم حتى يضيق بحلمها السفهاء.
وما تكاد الرأس تدخل قصر الخلافة في دمشق حتى تزلزل أركان الخليفة يزيد، «لا أحد معي في هذا القصر الكبير. أريد صديقا وأنتم لستم أصدقاء. أنتم تكرهون هذه العائلة كلها،... والرأسُ التي حملوها إلي هنا تشع دما ، وتأتي إلي في رقودي الصعب، الحسين يتطلعُ فيّ ويسخرُ مني.. إنني لا أستطيع أن أكون في مكان واحد معه. أقول له أصفح عني، ولكنه يتطلع إلي ويضحك! أحاول أن أبعد رأسي دون فائدة، أغطي عيني بالظلمات الكثيفة فأراه يشعُ فيها..» (29).
ولا يملك يزيد إلا أن يأمر بنقلها إلى خيمة لتوضع تحت مرأى الجميع، لا شك أن يزيد كان يسعى أن يتخلص من الرأس أولا، ويجعلها عبرة للجميع ثانيا ليبث فيهم الرعب، غير أن الأمر ينفلت عن السيطرة، حين تتمرد الرأس على كل القيود والسجون وتنزرع في عيون الأطفال، وأحلام الكادحين، وحناجر الطيور، ونسمات الربيع، وسلاسل المسجونين، إنها كبرياء تعلمنا جميعا كيف نحيى بشرف «ويجثمُ عند الرأسِّ بضعة حرا س أشداء غلاظ، مسلحين بالحديد. والناس تأتي لتحدق... ويدقُ المطرُ بعنف شديد، وتهتز الخيمة ويرتعشُ قماشها بقوة، وتندفع سيوف البرق فجأة وتشعلُ بعض أجزائها، ويطفئ الحراسُ النارَ بصعوبة، وتبدو الخيمة كبهو كبير مفتوح، ويُضاءُ باتساع، فتتضخمُ الرأسُ وتبدو من مسافات بعيدة، فعبر النوافذ الصغيرة الملقاة في بحر الحجر، وعبر الشرفات الكبيرة المفتوحة على الجبل والهواء والطيور، ومن ثقوبِّ الأكواخ، ومن أبواب المقاهي ومن أفواه الأسواق المفتوحة على اتساعها لالتهام الجيوب، ومن نوافذ القصر وأسرة الجواري ومن خرم إبر السجون الكثيرة المنتشرة عبر المدينة.. »(30)، لا شك أن قصة انتقال رأس الحسين من كربلاء إلى دمشق وما صاحبها من أهوال وعجائبية تنقل قصتها من مجال التاريخ والرواية معا إلى مجال الرحلة أيضا، كون عنصري العجيب والغريب يطغيان على رواية الرحلة وتمتزج فيها الحقيقة والخيال، لدرجة يصعب معها الفصل بين الواقع والخيال.(31).
2 ـــ يزيد/ اللعنة الأبدية:
يقدم الكاتب يزيد رجلا ضعيفا مستهترا بكل القيم التي يؤمن بها المجتمع الذي يقوده، حتى قيم الدين ذاته، يغرق في طلب اللذة، تحيط به مئات الجواري وزجاجات الخمر، معتقدا أنها طريقه للهروب من مواجهة حقيقته التي تربى عليها على يد أبيه معاوية «ليس ثمة حل لكآبة ما بعد الشرب سوى الشرب! هيا أضحك ودع هذا التجهم!»(32)، يبحث عن التسلية حتى مع المهرجين والقردة «كان يزيدٌ يلاعبُ قردا. كانت القاعة فسيحة، وبضعة نسوة جالسات على السجاد الملون باللؤلؤ، ويضحكن»(33).
يفتقد ذلك حتى في زوجته، وابنه الذي تمرد عليه وغرق في تبتل دائم مزورا عن نهج الانحراف الذي سار عليه أبوه، لقد اختار يزيد لابنه اسم معاوية ليس في تصوري وفاء لأبيه بقدر ما هو دلالة على ضعفه الذي جعله في حاجة ماسة إلى قوة أبيه وحنكته، لكن الفتى يخيب ظن أبيه، يغرق في بداية حياته في اللهو، حتى إذا ما قتل الحسين يفر إلى عالم التبتل، مناقضا تماما أباه الذي ما كان يؤمن بدين أصلا، ولذلك نراه يسعى بكل ما أوتي من قوة لتتفيه العبادات عنده حتى الصلاة «يدخل يزيد جناح أبنه معاوية الثاني، يراه يصلي، هو راكع الآن، ينحني ليسجد، يمسكه من كتفه: ماذا تفعل يا بني؟ تصلي؟ هيا دع عنك هذه الحركات!»(34)، محاولا أن نَيزج به في عالم المجون «صاح يزيد: لن تخرج من هنا أيها الأحمق. انظروا يا ناس فتى غضٌ يتركُ مخاز الخمور واللحم وغرف الجواري ويريد الذهاب إلى كهف»(35).
ويسعى الكاتب في أن يعري بني أمية جميعا، حين يعتبر حصارهم لآل البيت انتقاما من الرسالة ذاتها التي كانت في بني هاشم ولم تكن فيهم، إذ لم يكن إسلامهم إلا مناورة، يقول يزيد مخاطبا الحسين «منذ زمن بعيد وهذا العرش مكتوبٌ لنا، بعدت الرسالة عنا، لكن الكرسي لا يعرف غيرنا.. منذ المجد الغابر ونحن فرسان الخيل والسياسة والدهاء، وليس لكم يا بني هاشم سوى القراطيس والأحلام!»(36).
غير أن الهاجس الأكبر الذي نكد على يزيد كل حياته، هو رأس الحسين، فهو لم يكن يريد جسدا ولا رأسا، بل كان يريد استسلاما وخضوعا، مقتل الحسن نهاية لعرش يزيد، استشهاد الحسين لعنة صبتها السماء على آل معاوية، "يجلس على المقعد وهو يتنفس بصعوبة، يغمغم: كلُ جهدي ذهب هباءً، كل مطاردتي له، وحصاري العنيد العنيف، وقتل أهله، لم يفد شيئا كنتُ آمر بحصار أهله وقتلهم لكي يتصدع داخليا،... كنتُ أتوقع أن ينهار ويصرخ: ارحمني يا يزيد!... ما باله بهذا العناد والحماقة! لم أكن أريد سوى أن ينحني لي فقط، هل هذا شيء عظيم؟ وفضل الموت.. فضل قطع الرأس بالسيف على أن يقول لي كلمة،... حتى في موته حاول أن يذلني، أن يهينني، أن يبصق في وجهي، يصرخ الآن أنت تافه؟»(37)، والهاجس ذاته يكرره في موقع آخر وهو يلقى قائد جنده عائدا من ساحة المعركة، فيعجل إليه ليعرف شيئا واحدا، الخوف في عيني الحسين «أي مجنون أنت؟ كيف يمكن لرجل لا يخضع لي ولا يؤمن بجبروتي والسيف على رقبته؟ لا يمكن هو جبان، هو جبان وكان يتذلل وينتفض ويرتعد، ويصرخ سوف أخضع ليزيد، قل الحقيقة!»(38).
رواية رأس الحسين/ التاريخ بطعم الأسطورة:
لاحظنا منذ البداية أن الكاتب وإن حافظ على الأحداث الكبرى للتاريخ إلا أنه ازور عنها ليتعمق نفوس الشخصيات، إذ لم يكن الهدف أساسا هو الحادثة التاريخية بقدر ما كان الهدف هو كيف تفاعلت هذه الشخصيات مع الأحداث، وهي شخصيات مثلت كل طبقات المجتمع، الطبقة الحاكمة ممثلة في يزيد وعائلته وبني أمية، طبقة الجند ومثلها الشمر ومن خاض معه مغامرة قتل الحسين للحصول على المال، طبقة العامة من الناس ومثلتها أسرة الشمر وغيرها من أسر القبائل بأطفالها ونسائها وشبابها، الطبقة الثائرة ومثلها آل البيت وعلى رأسهم الحسين وزينب عليهما السلام، ضمير الأمة في تلك السنوات العجاف إلى يوم الناس هذا ومثله حمزة وكل الثائرين معه، بمن فيهم معاوية بن يزيد.
غير أن الكاتب يركز أساسا على شخصية الحسين، بل وعلى الرأس بالذات الذي ينقله من الواقع إلا عالم العجائب لدرجة أسطرته، فالرأس ينظر ويبتسم ويتكلم ويؤثر في واقع الطبيعة، ويختفي تماما كما اختفت الجثة من قبل، ليصير طاقة ثورية خلاقة داخل النفوس، منطلقا من تيمة الموت إن جاز لنا أن نزعم ذلك انطلاقا من تقسيم جان مالينو «Jean Malino» لتيمات العجائبي (الجن والأشباح، الموت ومصاص الدماء، المرأة والحب، الغول، عالم الحلم وعلاقاته مع عالم الحقيقة، والتحولات الطارئة على الفضاء والزمن)(39)، وهذه الطاقة ما كان لها أن تحدث لولا انتقال الكاتب من عالم الواقع إلى عالم الغريب المدهش، أو المعروف في ثقافتنا الدينية بعالم المعجزات والكرامات، أو ما يسميه تودوروف بالكثافة مفرقا بين الواقعي والعجائبي، يقول: (إن ثمة اختلافا في الكثافة التي تبلغ أقصاها في العجائبي)(40).
إن عبدالله خليفة لم يحرص على الحقيقة التاريخية، التي أوردها في كثير من الأحيان متخذا موقفا صريحا صراحة فنية، بل انتقل من حقيقة التاريخ/ المرجع إلى عالم تخييلي صارخ، إنه عالم العجائبي، فهل يمكن أن تصنف الرواية في باب الرواية العجائبية أيضا، على اعتبار أن العجائبي ينشأ عندما يتدخل التخييل في تحويل فكرة منطقية إلى أسطورة(41)، كما يذهب إلى ذلك بيار جورج كاستيكس Pierre-Georges Castex، وعلى اعتبار أن معظم عوالمها تستحضر العجائبي من خلال الرحلة، رحلة رأس الحسين من كربلاء إلى دمشق، كأن الحسين أبى إلا أن يمضي في طريقه حتى يهد عروش الظلمة، فالحسين حق لا يمكن أن يقهره قتل، وفكرة تتمرد على الجسد المادي، وروح تظل تسري في النفوس عزة وكبرياء، ولم يقتصر موضوع العجائبي على الرحلة فحسب، بل إن اختفاء الجثة أولا منذ بداية الرواية «يا سيدي الجثة لم نعثر لها على أثر، كأنها سرقت، أو خطفها أشباح أو جن أو بشر، فجأة توارت في الظلام»(42)، واختفاء الرأس في آخرها «لكن رأس الحسين يا سيدي اختفت..»(43)، ينقل العجائبية إلى موضوع الغيبة، الذي ارتبط في الثقافة الإسلامية بالمهدي المنتظر، وقبله بالنبي عيسى الذي رفعه الله إليه، بل ويرتبط ذلك بالشهداء أيضا الذين يخبرنا القرآن الكريم أنهم يقتلون ولا يموتون بل يظلون أحياء بيننا يرزقون دون أن نحس بوجودهم بيننا، مع الإيمان بعودة هؤلاء جميعا جسدا وروحا وإن لم يغيبوا فكرا من واقع الناس، على اعتبار «إن الجسد ليس كيانا منغلقا على ماديته الخالصة، فهو بناء رمزي يخضع للحالة الاجتماعية وللرؤية للعالم، أي أن الجسد ليس مسكنا أو قبرا أو حاويا فقط، بل هو علامة تتكلم وتشير وتنخرط في تواصلية ذات دلالات»(44).
إن عبدالله خليفة بهذا النزوع نحو العجائبية لا يقصدها بحد ذاتها ولا يرمي للتسلية والمتعة، بقدر ما يرمي إلى جعل رأس الحسين رمزا كبيرا يستمر في واقع الناس اليوم ليتحدوا به القهر والظلم والهزيمة، وهو الذي فعل داخل النص ذاته حين صير حمزة وبعض المسحوقين في واقع الناس آنذاك إلى ثوار.
وهذا الإصرار على المنحى العجائبي داخل النص بوظيفته الرمزية ينقل رأس الحسين من التاريخ/ الماضي، إلى حاضر الناس وواقعهم، بل وإلى مستقبلهم وتطلعاتهم أيضا، وليس الأمر غريبا على كاتب مثقف في حجم عبدالله خليفة الذي ظل في كل ما خط يقف إلى جانب المحرومين والمسحوقين، يبحث لهم عن شعاع من أمل، وعن حلم يتشبثون به بحثا عن كرامتهم وشرفهم.
الخاتمة:
يتجلى لنا مما تقدم المراس الكبير الذي يمتلكه الأديب عبدالله خليفة، فهو يختار الحادثة التاريخية الأكثر حضورا لدى عامة الناس، دون أن يقف عند حدود المرجع، وإنما يصبغ عليها عوالم متخيلة تصل بها إلى حد العجائبي، ثم يحينها رابطا إياها بواقع الناس ومستقبلهم، إذ أن الرواية التاريخية تكمن أهميتها في تحويل الخطاب التاريخي النفعي، الملتفت إلى الماضي (خطابا روائيا إبداعيا منشغلا بقضايا الراهن جماليا وأيديولوجيا)(45)، بل ويذهب بيار لويس راي إلى حد اعتبار الرواية التاريخية تغدو أكثر صحة من التاريخ (46).
وبحكم إيمانه القوي بدور الأدب في صناعة الإنسان، فإن الأديب لا يجعل من نصه مطية للفني والجمالي فحسب، لكنه يتجاوزه إلى جعله حاملا لرسالة أيديولوجية عظيمة أساسها حرية الإنسان وكرامته.
وهو لتحقيق ذلك لم يتوان أبدا في استغلال كل الممكنات الإبداعية التي يوفرها السرد، وعلى رأسها هذه الثنائية الضدية التي تجلت على مستوى الشخصيات، وهي بقدر ما فيها من بشارة لانتصار الخير والفضيلة، بقدر ما فيها من تحذير للطبقة المتسلطة التي لا يمكن إلا أن تكون مأساوية وظلامية.
حافظ الأديب على الشخصيات التاريخية كما هي وسار بها كما سارت بها الأقدار، خير أنه صنع لنفسه شخصية «حمزة» فحملت كل الرسالة التي أراد الكاتب أن يبلغها لنا، حمزة الذي كان في قصر السلطة مجرد مهرج، يتحول إلى قائد للثائرين ضد هذا القصر، وما كان لحمزة في بعده التاريخي واللغوي من معاني القوة والتحدي.
ـــــــــــــــ
✲ استاذ جامعي من الجزائر