1)
الكاتب الجيد هو مَن يقتنص انجذابك لحبكته..
الرائع يُماهيك مع أبطاله..
أما العظيم فيجعلك تعيش أدق تفاصيل روايته: تفزع من الرصاص، ترتشف أبخرة القهوة، يخفق قلبك مع قرب الخطر، تطرح أسئلة شخوص الرواية وتفكر في إجاباتها بنفسك
إسماعيل عمر؟ كَفتني روايته الأولى للاعتقاد، ثم الثانية الآن لليقين، أنه يملك المقوّمات التي تجعله يتجه للتصنيف الثالث بامتياز.
2)
مدرس لغة عربية مصري، طالبة جامعية جزائرية، زوجة هاربة، أبٌ مكسور، وضحية شابة نبحث عن قاتلها..
ما الذي قد يجمع كل تلك الشخصيات على أرض بلدٍ يتلظّى بالحرب، ويمور بغليان أبنائه؟ بلد منقسم بين جيشٍ حاكم ومعارضة ذاقت طعم السلطة، وكلاهما يتنازع على عرش بلدٍ مُثخن بجراحه؟
فى الظاهر هي حكاية فتاة شابة نتقصّى حكاية مقتلها الغامض مع صديقتها وأستاذها المصري، لكن في باطن الرواية طبقات عدّة وخليط مميز من الشجن والدم والإرهاب والوحدة والفراغ والفقدان.
اقرأ الرواية، ثم اغلق الصفحة الأخيرة وأبدل في خيالك اسم مصر بالجزائر، حينها صدقني لن تجد فارقًا ولو بسيطًا في ذات المأساة التي عاشها الشعبان منذ سنوات ليست بالبعيدة.
3)
ليس أقسى من الوهم الذي قد نبيعه للناس، إلا الوهم الذي نبيعه بأنفسنا لأنفسنا؛ فنصدقه ونعيش عليه..
في باب الزوار باع الجميع الوهم لنفسه واشتراه بأغلى ثمن: الهارب خارج حدود البلد متوهمًا الحرية والثراء، المنفصل عن والديه متوهمًا أنهم شياطين وهو الضحية، المتشبث بالوحدة متسولًا مشاركة في طبق طعام أو ثرثرة حول قدح من القهوة ومتوهمًا الحب في أول علاقة عابرة...
حتى أهل البلد ذاتهم توهموا أن حُكامهم هم الحُماة العادلون، وأن من يحمل السلاح هو العدو، وأن الألوان تبخرت من الجزائر ولم تترك إلا الأبيض والأسود، معي أو ضدي..
قبل أن يكتشف الجميع فى النهاية أن كل هذا لم يكن أكثر من وهم سقوه لأنفسهم حتى تجرعوه كاملًا، وأنهم خاضوا حربًا مع طواحين الهواء، لا فائز فيها، بل ودفعوا ثمنها من أعمارهم ودمائهم وأرواح أهاليهم.
4)
في روايته الثانية على التوالي يبهرني الكاتب بقدرته السهلة-الممتنعة على التعبير، برشاقته في السرد، وبخفّة قلمه وثِقَل أسئلته وقسوتها..
يبهرني بكيف يُمكنه اختزال عشرات المشاعر في بضعة سطور، والمرور على أعوام كاملة في فصولٍ قصيرة؛ يتقمص الشخصيات ببراعة، يعبر عن أفكارهم هم، يتحركون على الورق وهو فقط من يجسد حركتهم لا مَن يدفعهم.
في روايته الثانية يثبت لي الكاتب أن لديه مشروعًا يستحق الإعجاب، ويُقدِّم لنا وجهًا جديدًا لـ(الآخر) الذي يبدو مهمومًا به في كل رواية: كيف يبدو؟ كيف يفكر؟ وكيف يُمكن أن تمتد الجسور بيننا وبينه؟
في شنجن كان الآخر آسيويًا يخالف البطل فى العقيدة والبلد والعادات، لكن في باب الزوار الآخر هو أنت، بنفس دينك ولسانك وهويتك، لكن شدَّ ما يختلف عنك حتى تحسبه غريبًا بالكامل وهو أقرب الناس إليك.
هذه رواية أعرف أنها بقليلٍ من توفيق الله ستستحق إشاداتٍ يعقبها جوائز في قادم السنوات، وإني لمنتظر ذلك منذ الآن.
5)
هل الرواية بلا عيبٍ؟ بالقطع لا
افتقرت الرواية لأحداثٍ كثيفة كما كنت آمل.. بلى لم أجد ذرة من الملل لكني كنت أفتقد "الحدوتة" التي شابها للأسف التباعد بين الحدث والآخر، الإيقاع الهادىء أزيد من اللازم في بعض المواضع، والغوص في النفوس أكثر على حساب الدراما، حتى الأحداث الباقية التي ملأت صفحات الرواية أفقدها بريقها توقّعي للموقف القادم والسهولة النسبية في رسم سير الحبكة حتى النهاية.
أتفهم قرار الكاتب بترك المساحة لشخوص الرواية لتعبّر بأسئلتها وأفكارها ودواخلها عن مأساة بلدٍ بأكمله، لكنَّ الرواية العظيمة هي التي لا تنسى في النهاية أنها تحكي حكاية متصلة، سريعة الإيقاع، مليئة بالأحداث، وقَدَر الكاتب وفقًا لموهبته أنه صار ملزمًا في عيني برواية عظيمة في كل مرة.
6)
فيما عدا ذلك فيمكنني التأكيد بضميرٍ مرتاح أن الكاتب يثبت خطوة بعد أخرى أنه وُلد أديبًا كبيرًا، يشق طريقه بمهارة جرّاح يعرف كيف يكتب وعن أي موضوع يحكي وبأدق عبارات وأعذب لغة..
هل في هذا انحيازًا للكاتب لكونه صديقي؟ إجابتي الصريحة لك: أجل..
كل حرف فيما سبق فيه انحيازي التام لكل مبدع، لكل كاتب عفّ القلم، قوي الأثر، مُثقل بقضايا بلاده الحيّة، كاتب مهموم ولديه رسالة يريد إيصالها في كل رواية.. لو كان انحيازي للكاتب لم يكن واضحًا أمامك فدعني أؤكده دائمًا، وفي كل رواية قادمة...
لكني سأضيف فقط أنه من الظلم أن يكون ذلك الانحياز باسم (الصداقة)؛ فمحمد إسماعيل عمر ليس مجرد صديق، بل هو أحد أساتذة سأعود إلى أعمالهم بعد سنوات حين أقرر أن أكتب رواية عظيمة تنال إعجاب الناس؛ ذلك أني أعرف أنه حينها سيعلمني درسًا أحتاجه بشدة إذا أردتُ أن أكون أديبًا حقيقيًا لا مجرد كاتب.