رواية "في العراء" للكاتب الاسباني "خيسوس كاراسكو" نجحت أن تجذبني أحداثها ذات الطبيعة القاحلة، وعراء الأماكن، وجشع الأشخاص، وذلك الصبي الذي هرب من قريته سعياً لحياة أفضل، أو رُبما حتى حياة عادية، لا يتم فيها إنتهاكه بأي شكلاً كان، فتبدأ الحكاية بهربه، الذي لا نعرف له أي سبب، وتسير الأحداث بروية وبدقة وصف عالية من الكاتب، الذي استطاع أن ينقل الحكاية بألفاظها، فأضاف لها أبعاداً تجعلك ترى الكلمة، وتفهم المعنى، من دقة الوصف وشفافيته. وتتقاطع رحلة هرب الصبي مع الراعي الكهل، يرعى الغنم والماعز، ويركب حماراً يُساعده على التنقل في العراء الواسع القاحل، عجوز في أرذل العمر، وصبي في بدايته، وكأنهم التقيا ليُكمل العجوز حكايته، ويبدأ الصبي حكايته من ناحية أخرى.
بتقاطع المصائر والتقدم في الأحداث نفهم السبب الحقيقي الكامن وراء هرب الصبي، ذلك المأمور ومعاونيه، ينشر رجاله في الأراضي والقرى المجاورة من أجل أن يعثر على الصبي بأي ثمن، ليس من أجل أن يؤدي واجبه، ولكن لأسباب كريهة، واضحة من ارتجاف الصبي كُلما يتذكر اسمه، أو يسمع عنه، أو يكون بالقرب منه. لتتوالى الأحداث بعد ذلك الذي وصفها الكاتب في نهايتها بأنها وحشية، وفعلاً كانت رغم الهدوء الذي يُنقل بها الحدث، كانت وحشية جداً ودموية، حتى أن الكاتب تغافل قاصداً عن حدث معين لأحد الشخصيات، ومُبطناً بالسرد ما جرى له، تركها لك لتفهمها.
استمتعت جداً برواية "في العراء" وأحداثها الهادئة والتصاعدية حتى تفجرها، بنى الكاتب روايته ببطء شديد، ولكنه ما لبث يتسارع، يتسارع حتى النهاية الرائعة، ورُبما تكون نهاية الحكاية متوقعة، ولكن من قال أننا نقرأ من أجل نهاية الحكاية؟ نحن نقرأ من أجل الحكاية نفسها، وأوكد لك أن الحكاية جميلة مُتعددة الطبقات، مليئة بسرد رائع ودقيق، ومُزينة بترجمة "مارك جمال" الذي لن استطيع تصور جهده المبذول -حتى لو حاولت- في نقل ألفاظ الرواية وكلماتها، إلى لغة عربية رائعة ومُتزنة، والأهم من ذلك أنها ما زالت تُحافظ على روح النص، وطبيعة الأجواء.
بكل تأكيد يُنصح بها، قد تذكر بـ"العجوز والبحر" بشكلاً ما، كما ذكرتني.