سبردج مذكرات مستشرق
تأليف
ربيع فريد مرشد
(تأليف)
وكان السؤال الذي طالما شغلني وأشعلني، كما شغل الملايين قبْلي، وسيؤرِّق الكثيرين بعدي: «ما الخلود؟». فوجدت الإجابة التي كانت ترقص أمام عينيّ، لكنّني لمْ أرها، مثلي مثل الباحثين في الأفق البعيد، الذين يتفاجؤون بمبتغاهم الأقرب إليهم من لحظ ومضة: «الخلود هو الذاكرة». إذا سألت (س) من الناس: «هل تتذكّر جدّك الأوّل؟» سيقول لك: «طبعاً»، «طيّب جدّك الثالث؟»، «حدّثوني عنه»، «طيّب الخامس؟» سوف يرفع كتفيه، ويدلق شفته السفلى؛ أمّا إنْ سألته: «هل تعرف نابليون بونابرت؟» سيجيبك منفعلاً: «من منّا لا يعرفه؟ لقد أتخمت الكتب به»، طيب جوجول، أو دوستويفسكي، أوموليير، أو ديدرو، أو، أو...؟ سيقول لك متفاخراً: «أكيد... ليس هُم فقط، لقد قرأت لهم، ولكثيرٍ غيرهم».
الكلمِة، يا لها من روحٍ عظيمة! استطاع هذا الكائن في فَجْره تجسيدها كفكرةٍ بالحفر فوق جدران الكهوف أوّلاً، وبعدئذٍ المعابد، وبعد اختراع الحرف المضيء خطّها برفقٍ فوق ألواح الطين، ثم شواها بالنار، واستعمل في مراسلاته جلود الحيوانات المسكينة، التي اصطادها في البداية لأجل الغذاء؛ وأخيراً-وعلى الرغم من هشاشته- كان الورق.
لنبحث مليّاً عن تلك القوّة العظيمة في الخطّ المرتعش على الورقة السمراء، إيّاكم والسخرية ممّا فيها، فقد تعمل ورقةٌ واحدةٌ في داخلها جمع كلماتٍ على تغيير تاريخٍ بأكمله، أو إنعاش حضارةٍ كانت على هامش الحياة، لنجدها قد أقصت عروشاً من خلال كتاب، وأماتت أُخرى بزخمها العصيّ على الفناء، لتنعيها النصوص. إنّه الأزرق في دواخلنا: «في الضعف، وفي الركاكة تكمن قوّةٌ خالدةٌ؛ كهف يزفر جوفه بالّلون المُشِع». ورقة، وقلم، وفِكر حَيّ، لسنا في حاجةٍ إلى أكثر من ذلك.
ببساطة: تلك الحياة ليست إلّا خلود ورق.