تطرح رواية (روائح ديهيا) للكاتب المغربي طارق بكاري جانبًا من صراع الهويات والثقافة في المغرب، ما بين الهوية العربية والأمازيغية. كما أنها تتعرض وتعطي تصور واضح لصورة المغرب من جانب آخر والذي يطغى عليه الهيمنة للجماعات السلفية المتشددة والتي تمارس شتى أنواع السلطة والجبروت باسم الله والدين. وهذا جانب عرضه طارق بكاري في كثير من أعماله وأجاد وصفه والتعبير عنه.
يعود (يوسف) بطل العمل إلى قريته (صنهاجة) بعد غياب دام 25 عاماً. يوسف المسكون بنجمة حبيبته التي اختفت دونما أثر: نجمة التي كانت حبه المحرّم و التي عوضته عن أمه التي أفسدت طفولته بقسوتها معه. يوسف مكسور القلب بهجر زوجته نجوى له وهروبها مع حبيبها ومن ثم وصول خبر انتحارها له، لتموت بعد ذلك ابنته دنيازاد، طفلته الصغيرة المصابة بداء في القلب. ليلتقي (بديهيا)، الشابة الإسبانية الجميلة ذات الرائحة العطرة، والتي بكل تفاصيلها، تذكره بحبيبته نجمة. حيث أن اسم (ديهيا) يعود لملكة أمازيغية اختلف الناس عليها ما بين حبها وكرهها.
تتصاعد الأحداث وتتشابك في حياة يوسف الذي جاء لقريته محتضراً، حيث شكلت هذه الأحداث أحجية تُفكُّ تفاصيلها رويداً رويداً.
ككافة أعمال طارق بكاري، ما يميز هذا العمل جمال اللغة وقوة التعابير والتشبيهات، ولعلًّ ذلك من أهم الأسباب وأقواها التي تجعلني أقرأ كل عمل لطارق بكاري، تسحرني لغته في كل مرة أقرأ له عملاً. كما كان للعمل قوة اللغة وحضورها، حيث كنت أقرأه بروح يوسف، الرجل الخمسيني المحتضر. فكانت هذه النقطة جانباً يُحسب له.
من ميزات هذا العمل روحه أيضاً، فقد وضعنا طارق بكاري في روح الثقافة الأمازيغية وفي روح الريف المغربي، بشكل يجعل القارئ وكأنه في قلب الأحداث ولا ينفصل عنها.
هناك جانب آخر يُحسب لطارق بكاري، وهو عدم التشدق في غرامياته ومغامراته الدنجوانية كما أعماله السابقة، حيث كانت هذه نقطة واضحة في كافة أعماله السابقة وكانت مزعجة جداً. لكن في هذا العمل، ورغم تعدد علاقاته والتي لم تكن كمثيلاتها في أعماله السابقة، لم يكن هناك مبالغة في وصف هذه المغامرات.
من جانب آخر، هناك بعض الجوانب والتي برأيي كانت نقاط ضعف للعمل، ولم تصل به لمستوى أعماله السابقة:
أولاً: هناك كم أخطاء مطبعية كثيرة في هذا العمل، وهو ما وجدته غريباً فلم يحدث أن كان هذا موجوداً في أعمال طارق الأخرى.
ثانياً: هناك بعض التشويش في الأحداث، فمثلاً مريم، ابنة خالة يوسف، نادته في بعض المواضع في العمل بوليد، لا أدري إن كان ذلك سهواً من الكاتب أم خطأ مطبعي.
ثالثاً: : في كثير من المرات، لم أكن أشعر روح طارق بكاري في عمله هذا، وأنا التي قرأت كل أعماله، باستثناء جمال اللغة طبعا، وهذا أمر لا غبار عليه. حيث كانت كثير من الأحداث متوقعة، ويمكن بسهولة التنبؤ بها، وهذا ما لم أعتاده في أعمال طارق، حيث كانت المباغتات الجميلة والتي تقلب سير الأحداث غير حاضرة في هذا العمل أو ليست بقوة الأعمال
الأخرى.
وإنصافاً للغته الجميلة كما ذكرت، أقتبس بعض العبارات الجميلة :
❞ . كلّ حبٍّ عظيم يولدُ باستحالاته، بخطاياه، نتمادى فيه ونحنُ نعلمُ مسبقًا أنَّهُ يستدرجنا نحو الفجيعة، ننقادُ له لأنَّنا في الحقيقة لا نملكُ إلاَّ أن نفعل ❝
❞ في الأخير توجعنَا أحزاننَا التي تولدُ معنَا، لكن ما يوجعنَا أكثر هو تلك الفجوات الكبيرة التي يخلِّفها فينَا الفرحُ بعد أن يتخلَّى عنَّا ❝
❞ أعنفُ حبٍّ ذاكَ الذي يمضي دونَ أن نشبعَ منه ❝
❞ ما الكتابةُ إلاَّ محاولة يائسةٌ لالتقاطِ زجاج الآخرين من لحمنَا بعدَ أن أدمتنَا حادثةُ خيبة، الكتابةُ طريقةٌ لنعزّي أنفسنَا ونقول على نحوٍ مشفَّرٍ ومكابر كلّ آلامنَا، في الأخير وراءَ كلِّ مبدعٍ جرحٌ كبيرِ يحاولُ عبثًا أن يضمِّدهُ بأوراقٍ ❝
❞ كلّ عاطفة تُشرقُ من رماد تجربة سالفة، هي عاطفة زائفة ❝
❞ فنحن أحيانًا نقولُ أيّ كلام ونختبئ خلف أيّ سؤال فقط لئلاَّ يكتشف الآخر تلك الوحشة التي تسقطُ في أعماقنَا كحصاة وتتركُ لنا دوائر من حزنٍ تتَّسعُ شيئًا فشيئًا ❝
❞ يحدثُ من فرط تعلُّقنَا بشخص ما أنْ نشمّ روائحهُ في الآخرين، أنْ نراهُ أيضًا ❝
❞ قاسية أفراحُ اللحظات الأخيرة، تُذكِّرُنا بانتهاء صلاحيَّتنَا، وتدفعنا إلى التشبُّث بتلابيب الحياة ونحنُ نعلم سلفًا أنَّها ستدفعنا بعيدًا عنها. ❝
❞ نتحرَّر من المكان الذي نسكنهُ لكن أبدًا لا نتحرَّر من المكان الذي يسكننا. ❝