بعض الروايات يصعب إيجاز موضوعها أو فحواها في كلمات أو عبارات قليلة، وهذا ما أجده في رواية "اعترافات شرسة" لميا كوتو الصادرة منذ عامين عن دار الآداب بترجمة مارك جمال، بل ويبدو الإشارة إليها بأنها رواية تتحدث عن قرية أو اضطهاد النساء في أفريقيا إشارة قاصرة تختزل الكثير مما في الرواية من ثراء، وذلك كله برغم أنها لم تتجاوز المائتين وخمسين صفحة!
في مقدمة الرواية يشير الكاتب إلى أن أحداث روايته مأخوذة من وقائع وشخصيات حقيقية، ولكنك ما إن تلج عالم الرواية حتى تنسى تلك الإشارة وتتعايش على الفور مع أبطال الرواية وآلامهم ومشكلاتهم والأخطار التي تحدق بهم، منذ المشهد الأول الذي نكتشف فيه أن أسدًا يلتهم الابنة، وكيف تتعامل الأسرة الصغيرة مع تلك المصيبة، لنتعرف من خلال تلك الحادثة البسيطة على عدد من عادات وتقاليد عالم قرية "كولوماني" التي يسيطر عليها الرجال والأسود، فيقتلونهم أحياءً وموتى!
تكمن براعة الروائي في قدرته على استيعاب كل تفاصيل روايته وعالمه، ثم التعبير عنه بذلك القدر من الصدق والحساسية، لذا جاءت الرواية ليست على لسان الصياد، بل ولا الكاتب (الذي يسخر منه أحيانًا) فقط، بل على لسان البطلة التي تسعى لاكتشاب صوتها وحياتها وتكتب يومياتها أو اعترافاتها، مريامار التي نتعرف منها على تفاصيل ومفاجآت مختلفة تمامًا في حكايتها، وعلاقتها بعالمها وقريتها وأبوها، ثم كيف تسعهى للتمرد على تلك القرية وذلك العالم الذي لا يسمح للنساء بالحياة والحب!
((«منذ أحببتُكِ والعالَم بأسره لكِ أنتِ. ولذا، فأنا لم أهبكِ شيئًا. وإنَّما بالكاد رددتُه لكِ. لا أترقَّب منكِ مقابلًا. وعلى الرَّغم من كلّ شيء، فإنَّ رسالتي تطلب ردًّا، على الطريقة القديمة: إن كنتُ أروق لكِ، إن كنتِ تبادلينني الإعجاب، فاطْوِي طرف الرسالة وردّيها إليَّ غدًا».
في اليوم التالي، لم تتطرَّق لوزيليا إلى الأمر. لم تجلب الرِّسالة، ولم تنبس بكلمة واحدة. ليس لها أن تتخيَّل كم آلمتني بما أبدته من عدم اكتراث. كان يجدر بي أن أملك زمام نفسي، ولكنِّي لم أستطِع:
ـ ألم تطوي الرِّسالة؟
هزَّت رأسها نافيةً. فأخفيتُ الألم الذي أحدثه الصدّ في ذاتي. كم تتَّسع نفوسنا لدفن تلك الميتات الصغيرة التي نموتها! قطعنا الأروقة جنبًا إلى جنب، في صمت بارد بقدر برودة المصحَّة النَّفسيَّة ذاتها. وفيما أنا خارج، طلبَت منِّي لوزيليا:
ـ لا تنقطع عن زيارة المستشفى، من فضلك. فأخوك ليس له سواك.))
استطاع الكاتب أن يكشف عن نفسيات أبطاله ويقسّم روايته بين عالم الحقيقة والخيال تارة، وبين الحكاية المعروفة التي تبدو على السطح والحكايات الأخرى المخفية العميقة التي لا تتكشّف كلها إلا في نهاية الرواية، ولعل ذلك أيضًا من جوانب براعته في بناءها إذ حرص على أن يقدم من خلال كل فصلٍ في الرواية ومن خلال بطلي عالمه اللذين يرسمان صورة العالم مفاجأة جديدة، أو تصورًا مختلفًا للحكاية التي يتداولها الناس في تلك القرية التي تبدو مليئة بالحكايات والغرائب.
ليس الأمر في النهاية أمر مغامرة أو فريسة وصيّاد، بلا ولا علاقة غريبة بين إنسان وحيوان، إنها هذا كله وأكثر منه، إنها حياة كاملة وتفاصيل ثرية تنشأ في القرية البعيدة المغمورة هناك في أفريقيا ولكنها تلقي بظلالها على العالم كله، الذي يحكم فيه القوي الضعيف، والذي يبدو حيانًا أن هناك فرصة للضعيف فيه أن يفرض حضوره وسيطرته بشكلٍ آخر.
تبقى الإشارة إلى أن لغة الرواية وشاعريتها كانت واضحة وتم نقلها إلى العربية بذكاء، من خلال ترجمة مارك جمال، الذي أشكره دومًا على اختياراته في الترجمة لأعمالٍ أدبية تستحق التركيز، وتمنحنا فرصة للتعرف على عالم أدبي واجتماعي لم نكن على دراية به، وأشكره أيضًا أنه ترجم لميا كوتو رواية أخرى هي "أرض تسير نائمة" التي سأضعها في قائمة القراءة قريبًا.