قبعة بيتهوفن .. رهانات الخسارة والفوز
(( في عام 1812 جاء بيتهوفن لقضاء بضعة أيام في تبليتز، حيث التقى للمرة الأولى غوته. قاما بنزهة معاً. وبينما كانا يسيران في أحد الممرات، فجأة ظهرت أمامهما الإمبراطورة، ترافقها عائلتها ووزراؤها. توقف غوته الذي لمح الموكب، ولم يسمع ما قاله بيتهوفن، تنحّى جانباً ونزع قبعته. أمّا بيتهوفن، فقد مكّن قبعته فوق رأسه، قطّب حاجبيه الكثّين اللذين طالا بضعة سنتيمترات أخرى، وتوجّه نحو الأرستقراطيين دون تخفيف سرعة خطاه. هم الذين توقفوا، أفسحوا له لكي يمر. حيّوه. لم يلتفت إلا لاحقاً لكي ينتظر غوته. عندئذ قال له رأيه بسلوكه الذليل، وعنّفه كمدّع بليد صغير".
هكذا ترد الحكاية في رواية "الخلود" لميلان كونديرا، على لسان بتينا، العاشقة الصغيرة لغوته، والتي ضحّى بعاطفتها الكبيرة، مقابل "سلام زوجيّ بائس" بحسب الرواية. لا يرى كونديرا، في فصلٍ لاحق من الرواية، أنّ ما قام به بيتهوفن يمثّل فعلاً ثورياً، ولا تنمّ فعلته عن احتقاره للأرستقراطيين، كما أنّها لا تعني أنّ الأرستقراطيين رجعيون يستحقون الاحتقار. إنّها ببساطة تدلل على أنّ المبدعين يستحقون الاحترام أكثر ممّن يحكمون، وأنّ الفنّ والإبداع أكثر أهميّة من السلطة والسياسة، وأنّ الأعمال الإبداعية هي الخالدة وليست الحروب، ولا حياة الأمراء المترفة))*
من ميلان كونديرا وبيتهوفن إلى رامي طويل وغيره ثمة رهان مستمر يفترضه الفن والأدب، ويراهن عليه الفنان والأديب وربما القراء أيضًا أن البقاء في النهاية لهذا الفن والإبداع مهما تجبّر الطغاة، وأن الحكام زائلون والخير والجمال باقٍ إلى الأبد.
رهانٌ جديد، مع شخصية مختلفة، يرسم الروائي رامي طويل تفاصيلها شيئًا فشيئًا عبر تقسيمات لسيمفونية بيتهوفن في حركاتٍ/فصول أربعة، نتعرف فيها على عالم بطله الذي يحكي عنه الراوي العليم في البداية، أطرافًا من حكايته، بادءًا من لحظة انهزامٍ خاصة، حتى تعرضه للتعذيب، مرورًا بحياته منذ كان طفلاً حتى لحظته الحالية التي يلتبس فيها الواقع بالخيال، ويقف أمامها الناس في انتظار التأكد من بقاءه وعودته.
لم يشأ رامي طويل أن يجعل بطل روايته كاتبًا أو فنانًا، بل هو ذلك التائه بين العالمين، الذي وجد في القراءة ملاذه وعالمه، فيما يسعى أن يجد له مكانًا في صفوف لاعبي كرة القدم، نموذج خاص لشخصٍ يود أن يمضي حياته على الحياد، قرر منذ وقتٍ مبكر أنه لن ينتمي لأحزاب، ولن يقف في صفٍ ضد آخر، فتح له الانترنت عوالم غير متناهية، سعى لاستكشافها حريصًا كل الحرص على أن يبقى في خندقه، ولكن الحرص لم ينجه من القدر.
حتى بعد تجربة اعتقاله شديدة الغرابة، خرج مرة أخرى يبحث عن نفسه، ويتلمس في الآخرين حياة مسالمة وديعة، لا أثر فيها للخصام والمشاحانات، ولذلك بقي أثره في أربعة من أصدقاءه يختم بهم الكاتب روايته، وكأنه يرصد من خلالهم كيف كان الناس يرونه، بعد أن تعرفنا عليه جيدًا، وبعد أن بدا ألا جديد لديه يقوله.
((ثمّةَ رابطٌ عضويّ بين الديكتاتوريّة والفنّ الرديء. ترتجفُ العروشُ أمام مقطوعة موسيقيّة مصنوعة بإتقان. يسعى الطغاةُ لتكريسِ الرداءة وسيلةً لتحويلِ البشرِ إلى قطعان يسهلُ سَوقها.
ستنتهي الحربُ يوماً ويعودُ الناسُ إلى ديارهم التي أعيدَ إعمارها لمصلحةِ تجّارِ الحرب وزعمائها. سينبري الكتاب لتأليفِ روايات عن الحرب والتشرّد والنزوح والموت. سيصنعُ السينمائيون أفلاماً تصفُ بشاعةَ الحرب وأهوالها .. ستنتهي الحرب يوماً، .... وحتى ذلك اليوم سيبقى الفقراءُ وقوداً وجسوراً يطؤها المتصارعون في طريقهم نحو غايات وحدهم يعرفونها بدقّة))
بين رصد آثار الحروب على الناس والفقراء ومحاولات الفنان للنجاة بقلمه وكتابه وريشته، وربما بسيمفونية خالدة تتحدى الزمان، ستبقى أيضًا تلك الكلمات دالة جدًا أننا بإزاء روائي مختلف، استطاع أن ينسج خيوط عالمه وروايته بدقة، وتمكن من الخروج من ويلات الحروب وآثارها إلى صياغة عمل فني جميل، استوقفني لديه بشكل خاص رسم الشخصيات المشاركة ـ كما أحب أن أسميهم ـ التي عبرت مع البطل حكايته، ثم استطاعت أن تعبّر عنه في النهاية بطريقة ذكية، شخصية نجوى وجلنار، رغم الفارق بينهما وبين أثر كل واحدة منهما في حياته، كذلك أحمد المغني الطفل ثم الشاب، الذي يبدو وكأنه عازف وحيد في سفينة تموج بالغرقى، وفي النهاية ناصر، ذلك الديكتاتور الصغير الذي يبدو ألا مفر من التعرف عليه ومصارعته.
قبعة بيتهوفن، التي نحتاجها جميعًا اليوم، لعلنا نتمكن من تجاوز كل ما يحيط بنا من حروب وقتال وصراعات، هي رواية رامي طويل الثالثة بعد أن رصد "حيوات ناقصة" ورقصة الظل الأخيرة من قبل، كما صدر له مجموعتان قصصيتان.
.
*النص في المقدمة من مقال لرامي طويل في الأخبار اللبنانية عام 2016، وتم إضافة جزء منه للرواية.