ينفتح المشهد الأول في رواية ممدوح عزام "حبر الغراب" (دار سرد 2021) على لعنة، على رجاء مشوب بالأمل من رجل حانق ومقهور، اسمه توفيق الخضرا إلى إله كلي القدرة، يتوسل فيه عبر الكلمات والأدعية بأن يلقي بصاحبه الذي لم يعد بصاحبه، لقمان لقمان خارج رحمته الإلهية، أن يصيّره عصفًا مأكولًا، عدما كليًا. ليسدل ستارته على مصافحة صقيعية بين رجلين يتبدا فيها الأول نبيًّا محزونًا فيما الآخر مجرد أفّاق ومتآمر، وكيف لا يكون وقد ساهمت رذائله المشينة؛ الإدمان على شرب العرق والدعارة في طمس حقيقتين؛ نهب مكتبة السماقيات التي كان شريكًا في تأسيسها ومقتل مقيمها الشاب فارس أبو اللوز؟
كان يمكن لتوفيق الخضرا أن يواصل حياته اليومية بالاعتيادية، التي دأب عليها منذ حصول مذبحة الكتب الكبرى، أن يقيم في السويداء ويظل قلبه معلقًا بالسماقيات، قانعًا بنصيبه اللئيم من المنفى (العيش على تخوم الناس، على مقربة لصيقة من حواسهم المتبدلة، وبالضد من تصوراتهم الساذجة عن الحياة)، ليربح بذلك لقب الحكيم الزاهد ولنخسر بدورنا ألق الحكاية؛ حكايته مع الناس وحكايتهم مع المكتبة. لكنّها مشيئة الصوت، صوت لقمان المشروخ ذاته ومن ثم يده الحائرة بين صوتين؛ الإمساك عن قول الحقيقة "فيك تنسى؟!" والإصرار على إعلان قيامتها "يمكن تساعدك ع التذكر!"، هي التي سيكون لها الكلمة الفصل في إخراجه من الصمت، إدماجه في نار الحكاية ولهيبها.
ثمة اعتقاد راسخ لدى النقاد والقرّاء على حد سواء بأن النص الأدبي مغوٍ، وأن غوايته أو سر جاذبيته يكمن في متعة قراءته ذاتها، عبر التعامل معها كنوع من الكشف أو القبض على جملة العناصر الشكلية أوالبنائية (الزمان والمكان والشخصيات وعدالة مصيرها والحَبكة والمحور أو المعنى العميق والإسلوب وطرق السرد وغيرها الكثير) التي تشكل نسيجه الحي. فإذا ما كانت متعة الكشف عن طبيعة العدالة المتحققة لشخصيات العمل الأدبي وفقًا لنظام العقوبات والمكافآت تظل أسيرة الانتهاء من قراءة العمل الأدبي، فالأحرى أن تكون متعة القارئ موجهة إلى البدايات، إلى لحظة الكشف عن الحَبكة وعن المسار الذي ستسلكه، خاصة إذا ما تعاملنا معها على كونها اللبنة الأولى في تشيكل البناء أو المعمار الروائي وتحديد معالمه.