لاتحظى كتب "أدب الرحلات" بمثلما تحظى به الروايات والقصص من قراءات والتفات، على الرغم من أنها تحمل خبرة صاحبها الواقعية، وحكايات عديدة، يصلح بعضها لأن يُبنى عليه عالم روائي مكتمل.
في كتابه الممتع، الذي ربما يصبح دليلاً لكل كتب أدب الرحلات، يقول عزت القمحاوي:
(من لم يسافر، ولو عبر قصةٍ في كتاب، لم يعش سوى حياة قصيرة)
وبالتالي فإن سعيد الحظ من يتسنى له قراءة أكثر من كتابٍ يكون فيه السفر والترحال عمدة وأساسًا، وهو ما لم يتحقق سوى في كتب أدب الرحلات، وهي قليلة في مكتبتنا، ولكنها موجودة وتكون بالفعل كتب شيقة ممتعة.
سعدت جدًا بكتاب الأستاذة الإعلامية "عائشة سلطان" (هوامش في المدن والسفر والرحيل) الذي تقدمه بمقولة الروائي التركي "أورهان باموق" (الكتابة عن المدن تعد حفظًا للذاكرة، فالمكان يسجل نفسه في ذاكرتنا وفقًا لأحاسيسنا في اللحظة الراهنة، وحين ندمر تفاصيله.. البيوت، الأشجار، الأسوار والأسواق… فإننا نفقد فهرس ذاكرتنا، لأن فقدان المكان هو فقدانٌ للذاكرة)
ومن منطلق ذلك الحرص على حفظ الذاكرة وتوثيق الذكريات الجميلة التي عاشتها تعود عائشة إلى ذكريات نشأتها في مدينة "دبي" القديمة قبيل التغيرات الكثيرة التي حدثت في أواخر التسعينات لتطوف بنا من خلال رؤيتها ورحلاتها العالم كله، وتضع على كل مكانٍ من الأماكن التي زارتها بصمتها أو طابعها الخاص، لاسيما حينما تخرج من ذكريات النشأة والطفولة والشباب، إلى سفرياتها من القاهرة إلى برشلونة.
تحدثنا عن الكويت "التي تملأ ذاكرتها" حيث بدأت تعرفها على اسم الدولة منذ بداية دخولها المدرسة التي تعلم فيها البنات، وكانت تلك نقلة حضارية وثقافية كبيرة في دبي ذلك الوقت، من ذلك الحين ارتبطت الكويت في ذهنها بذكريات الدراسة الأولى، الفصول، والإذاعة المدرسية، والكراريس ومجلات الكوميكس وبداية التعرف على عالم الشعر والأدب أيام الثانوية والمراهقة مع دواوين نزار قباني وغيرها، وتستعيد مع هذه الذكريات عددًا من المشاهد التي لاتزال حاضرة في ذهنها مثل الأسواق (سوق المباركية) ومعروضاته وبضائعه ومافيها من ثراء وتنوع، إذ تذكر أن ذلك السوق يشعر من يقلب في بضاعته بأنه يمر بكل دول العالم، من مواذ غذائية وحلويات ومحلات عطارة إلى إكسسوارات وسلع وتحف وغيرها.
وتتوقف ـ بالطبع ـ عند القاهرة، التي تحمل لها مكانة خاصة، ليس لمصر فقط، بل وللمصرين أيضًا، وترصد تجوالها وذكرياتها في شارع المعز والحسين وقهوة الفيشاوي وغيرها، وتقول:
(لا شيء يعدل أو يعوض عن زيارة القاهرة، لا أن تقرأ عنها في روايات نجيب محفوظ، ولا أن تسمع لصوت الحب في أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، ولا أن تتابع الصحف والمجلات المصرية، ولا أن ترى كل ما أنتجته السينما المصرية من أفلام ونجمات ونجوم، بل ربما لكل هذه الأسباب عليك أن تزور القاهرة، وأن تمشي في أحيائها، وتزور متاحفها، وتتبع وقع الحياة ويوميات المدينة في الشوارع والمقاهي والمطاعم والأحياء التاريخية، وأن تعرف مزاج الإنسان هناك في جدالاته وهو يشتري ويبيع ويتعامل ويغضب ويقرأ خريطة أيامه وخريطة القاهرة!
الشخصية المصرية محددة الملامح وعميقة الأبعاد، ليس مهمًّا أن تتفق معها أو لا تتفق، تلك وجهة نظرك وأنت حر فيما ترى، لكن لا يمكنك إنكار سطوع هذه الشخصية وتمتعها بجملة سمات لا يمكنك إزاءها سوى أن تحب هذه الشخصية، ليس لخفة ظلها فقط، فالشخصية المصرية أعمق وأعقد من مجرد خفة ظل، وتعاطٍ ساخر مع أزمات الحياة، ونكتة تطلق بمنتهى سرعة البديهة، فالشخصية المصرية طبقات متراكمة من الوعي والتاريخ والحكمة)
وكي لا يأخذ أحدٌ الغرور ـ فيما يبدو ـ بمدينته، فإن الكاتبة توزّع إعجابها بالتسأوي على عدد من العواصم الكبرى، انظر كيف تتحدث عن اسطنبول:
(( حين يتعلق الأمر بالسفر بحثًا عن البهجة والمتعة، وحين يصبح التحليق تحت سماوات مختلفة وحميمة مطلبًا مُلحًّا للقلب والروح، فهناك منطق مختلف يفرض نفسه علينا، يختلف بل ويتعارض كلية مع منطق التخريب الذي يمارسه الإرهاب ضد كثير من المدن لينفروك منها، إلا أن المدن التي نحبها تستقبلنا دون تردد برغم جراحها، ونحن نذهب إليها برغم المخاطرة، لأن هناك ما يجذبنا إليها، ما يدعونا ويستدعينا لنذهب على جناح السرعة.
بعض المدن تشكل سماواتها مظلة واسعة، ملونة، أنيقة، وتفوح بكل الروائح، تستحضر كل الأطعمة، وتقدم روائح كل الحضارات. إسطنبول واحدة من هذه المدن، أجدها دائمًا كما أتمناها كلما شدني هاجس السفر إلى مدينة عابقة بكل الخيارات.