مثلي مثل غيري من القرّاء عندما عرفت أن الرواية الجديدة للكاتب الروائي، سامح الجباس، الصادرة عن دار العين بالقاهرة، ستكون عن شخصية لبنانية حقيقية غامضة وغريبة، قمن ببحث سريع عن شخصية "سليم العشي" (دكتور داهش)، وعرفت بعضا من تاريخه وحياته.
ومثلي مثل كثيرين تصورت أن الرواية سوف تكشف لنا حقيقة الرجل المثيرة، وهو ما دفعني للتفرغ لها على مدى يومين حتى فرغت منها.
أول ما يدهش القارىء هو الجهد الكبير الذي بذله الكاتب في الحصول على المعلومات التي أوردها في صفحات الرواية عن شخصية الدكتور داهش وشخصيات أخرى ارتبطت به (وآمنت به وبدعوته!) وشخصيات تبدو بعيدة كل البعد عنه، لكنه اكتشف روابط (قوية في بعض الأحيان، وواهية في أحيان أخرى) بينهم وبينه، هذه الروابط التي تدعوك - كقارىء - لإعادة النظر في كثير من القصص والروايات التي ربما تكون قراتها من قبل ولم تلتفت إلى "رسائلها الخفية".
إن دعوة دكتور داهش (إذا صحت تسميتها بالدعوة) ليست أمرا جديدا، فهناك الكثيرون الذين سبقوه وحاولوا، وهو التوفيق بين الأديان السماوية في مذهب واحد، وهو ما يسمونه ب"الإنسانية" تارة، أو "المذهب الروحاني" تارة أخرى، بحيث يتم استبعاد كل "المختلف عليه" بين تابعي تلك الأديان، ورؤيتهم للآخر وتعاملهم معه.
هذه فكرة "مثالية" للغاية، وبالطبع هناك من يؤمنون بها نظرا لظروفهم العامة والخاصة، حيث تنقلب حياتهم من النقيض للنقيض، من الإلحاد - مثلا - إلى الإيمان الذي لا يداخله شك أو خوف من العواقب والعقوبات.
لكن، وعلى فرض حسن النية، لا تلقى تلك الدعوات قبولا له تأثير على نطاق واسع، لأنها تتعارض بشكل واضح مع الأديان التي لا يمكن أن تقبل الحلول الوسط أو الحلول الجزئية، مهما كان نُبل الهدف أو استقامته أو سلامته من الناحية النظرية.
إنني بالطبع لا أدافع عن دكتور داهش ولا دعوته، فهو - في النهاية - شخص غريب الأطوار، وهناك فجوات كثيرة تثير الشك حوله وحول حياته ودعوته، أو لنكن أكثر دقة: مذهبه، ليس أقله ذلك الغموض الذي أحاط به نفسه، أو أحاطه به تابعوه، كنوع من الأسرار العليا التي لا تتكشف إلا بطريقة محددة، ألا وهو الإيمان الكامل به وبها.
إن الرواية - عبر تكنيك سريع جذاب وخاطف - تشد القارىء من أول صفحة لآخر صفحة، بحثا عن إجابات لمئات الأسئلة التي تظهر تباعا، وعبر زمنين مختلفين، هما زمن تاريخ الشخصية نفسه وذكريات تابعيه وزمن الكاتب الروائي، سامح، الذي تلقى دعوة غامضة لكتابة رواية عن دكتور داهش، يعيش القارىء في أجواء شبه أسطورية، وبالتأكيد فإنه ينسى للحظات أن الرواية - مهما كانت دقة وقائعها التاريخية - لن تكون في النهاية إلا رواية، وأن عشرات الأسئلة التي ينتظر إجابتها سوف تكثر لتصبح بالمئات، وأن عليه أن يبحث بنفسه عن تلك الإجابات.