فتنجنشتاين! لا! لم يكن اسمه ولا فكره أو كثرة الإحالات على كتبه هي ما جذبتني إليه، بل كانت صورته، تلك الصورة الشاخصة العينين المحدقة إلى المجهول واللانهائيات!، في كل مكان أرى صورته فيها حتى من قبل أن أعرف اسمه أشعر بأني مجذوب نحوه بقوة خفية.
طوال فترة قرائتي لهذا الكتاب وجدت نفسي مجبرا على استحضار كتاب شذرات فلسفية لكيركجارد، كما ولو أن روح واحدة هي من خطتهما ولكن في عالمين مختلفين، عالم الإيمان لكيركجارد، وعالم السعي لليقين عند فتنجشتاين، أم علينا أن نقول خطتهما في لعبتين لغويتين مختلفتين، لعبة (الإيمان) اللغوية الكيركجاردية، ولعبة (اليقين) اللغوية الفتنجنشتانية!
أنا أعرف... هل تعني هذه الجملة سوى (أنا أعتقد) هل (المعرفة) إلا فعل (اعتقاد) كما لدى فتنجنشتاين، وفعل (إيمان) لدى كيركجارد!
هل كلمة (أنا أعرف) لها معنى خارج سياق، خارج ممارسة، خارج لعبة لغوية معروفة القواعد من كل الأطراف، هل كلمة (أنا أعرف) تعني أي شيء من الناحية (الفلسفية) المجردة، أم أنها مجرد كلمة لإضفاء اليقين والتوكيد تلعب دورا فقط في سياقاتها الملائمة؟!!
ممارسة الحياة هي اليقينية، هي موضع الاتفاق، هي السياق والإطار، أما (المعرفة) فلا يمكن أن تكون يقينية إذا استخدمنا قواعد اللعبة اللغوية الفلسفية، فنحن لا نعرف شئ يقينا بل نمارس الحياة يقينا أما معرفة جواهر الأشياء فلسفيا فهو أمر يفوق قدراتنا كبشر ولا يمكن أن يكون محل اتفاق، الاتفاق في الممارسة في اللعب وفقا للقواعد اللغوية الموضوعة منذ دهور ولم تعد محل نقاش، ولكل محتمع ولكل حقبة حقيبتها وقواعدها اللغوية التي لا يمكن فهمها خارج سياقها أو إطارها.
والشك المطلق بغرض الوصول للحقيقة ما هو إلا وهم، فلا شك يبدأ إلا من يقينيات وقواعد راسخة يبني عليها أسسه ويكتسب منها معناه، أم الشك المطلق فهو مشكوك فيه!، أو في إطار ( لعبة ) لغوية آخرى فهو بديل لكلمة (الإيمان) لأنه صار عقيدة متخذة بشكل قبلي لا محل للشك فيها!
أنا أعرف = أنا أعتقد = أنا أؤمن = أنا أمارس الحياة بلا تساؤلات! وإذا بدأت التساؤلات عن (معرفة) يقينية بالمفهوم (الفلسفي) فلن نجد لنهايتها مرساة، لأن كل إحابة ستنقلنا إلى سؤال آخر إلى ما لا نهاية!
هذه المراجعة ليست للكتاب بقدر ما هي مراجعة لذاتي وأفكاري، فلا يتهمني أحد بأني لم أفهم الكتاب، فربما أنا لم أفهمه بالفعل، ولكن ما أنا منه على (يقين) هو أنني أحاول فهم نفسي!