يتميز اسلوب المسيري بالسهولة وكثرة الاستشهاد بالأمثلة، وهذا ما نحتاج إليه عند التحدث عن الأفكار التي قد تكون صعبة التناول لمن ليس متعمقًا فيها، فهو في هذا الكتاب قد ناقش أفكارًا هي من الطراز الأول، فهي تتعلق بالإنسان ووجوده في الحياة، لا من ناحية فرديته بل من ناحية جماعته، أي الحضارة الإنسانية، وأحسبني أقول أني قد نلت حظًا وافرًا من المعرفة بقراءتي هذا الكتاب رغم عدم استيعابي لكل ما فيه، فهو ليس من الكتب التي تقرأ لمرة أو في نزهة، بل هو من الكتب التي ينبغي التدارس حولها والعودة إليها مرات ومرات.
يبدأ الكاتب بالتحدث عن الصهيونية، ولقد حسبته في بادئ الأمر جزءًا من موسوعته ذائعة الصيت عن الصهيونية، لكن الصهيونية كانت مدخلاً لفكرة الكتاب الأساسية، ولا أدعي أن الكتاب هو بحث مركز عن موضوع (الحضارة) لكن هذا الموضوع داخلٌ فيه، فرسالة الكتاب هي من أجل توجيه التفكير في موضوع (الحضارة) وغيره من المواضيع المركبة، وكما قيل أن المسيري هو من مفكري الطراز الثالث، أي أنه لا يعالج المواضيع الفكرية بقدر ما يعالج طرق التفكير فيها.
إن العنوان الكامل للكتاب هو (الإنسان والحضارة والنماذج المركبة) وأهمية الكتاب تتركز في النصف الأخير من هذا العنوان، فهو يحفز المفكرين على تبني (النماذج المركبة) عند محاولة فهم الظواهر وتحليلها، وكأنه يرد على مفكرين آخرين (قد يكون مالك بن نبي منهم) الذين تحدثوا عن الحضارة بوصفها خلطة سهلة يمكن تطبيقها في أي زمان ومكان، في حين أنه موضوع مركب، أي أن هنالك عدة أسباب وعوامل تساهم في صنع واقع معين، ومن أجل أن نفكر بشكل صحيح فعلينا بناء نموذج مركب.
كان الفصل الأول بعنوان (الصهيونية والرومانسية) وقد قدم فيه تحليلا عميقًا ومحاولة لفهم الفكر الصهيوني والذي استنتج أنه فكر رومانسي في الأساس، ولم يغفل عن التعريف بالرومانسية ذاتها، كما أنه لم يدع الفكرة الصهيونية بلا شرح أو توضيح، ومن الصهيونية إلى (الانتفاضة) وفي هذا الفصل قدم قراءة في هذه الظاهرة بوصفها (نموذجًا مركبًا)، وكان الكلام في هذا الفصل سهلاً لذيذًا، وفيه بعض المواقف والحكايات.
فصل آخر بعنوان (معاداة السامية) ويظهر فيه اطلاعه الواسع ومعرفته العميقة، فقد كان الفصل رحلة تاريخية وتحليلية ماتعة، ثم فصول اخرى حملت هذه العناوين: الرأسمالية الرشيدة - حملات الفرنجة والجماعات اليهودية - المتحف والذات القومية - الانفصال عن القيمة - الأفكار والواقع، كما تحدث عن الثورة الصناعية وأسباب ظهورها في بريطانيا أولًا دون العرب مثلا، وعن الفكر الاختزالي الذي حول الإنسان إلى آلة، واحتوت صفحات الكتاب على معلومات كثيرة متناثرة.
كانت الفصول الأخيرة عرضًا وتحليلاً لكتاب أشاد به ونوه إلى أهميته وكان قد شارك في تأليفه سابقًا، إنه كتاب (الغرب والعالم: تاريخ الحضارة من خلال موضوعات) لقد أشاد بطريقة تعاطيه مع المواضيع لأنه استخدم النموذج المركب (الذي يدعو المؤلف إليه)، ثم راح يناقش الكثير مما جاء فيه في العديد من الصفحات مؤيدًا ومحللاً ومضيفًا.
أما في فصل (المتحف والذات القومية) فيتعرف القارئ على جوانب من شخصية المؤلف، ألا وهو حبه للمتاحف ونظرته الحضارية لها، فهي أماكن لها مدلولات هامة متعلقة بهوية الإنسان وقوميته، وقد تحدث عن (القومية) و (الهوية) وضرب الأمثلة من عدة متاحف في العالم، ثم ختم بالقضية الصهيونية والمتاحف التابعة لها في الأراضي المحتلة وخارجها، ووصف بعض المتاحف بشيء من التفصيل والربط بينها وبين معسكرات النازية وفكرة المحارق وغيرها من الأفكار المتعلقة.
كانت رحلة فكرية ماتعة داخل عقلية الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله، ولن تكون الأخيرة ان شاء الله.