لم أكن بحاجة إلا لساعة واحدة لأُنهي هذه النوفيلا القصيرة. لكني، وخلال هذه الساعة، حسبتُ نفسي قرأتُ سِفراً كبيراً عن الحضارة والتاريخ وصراع الأقليات ونضالهم للحفاظ على بيئتهم ولغتهم وقوميتهم..
يتّهم الكاتب “لوكليزيو” في أغلب أعماله حضارته الفرنسية ويشنّع عليها بجرأةٍ واضحة وحشيتها تجاه السكان الأصليين للأقاليم التي تستعمرها، ويبحث في عقلية وعقائد هذه الأمم المُستعمَرة مايجعلها تتقبل الغازي في بعض الأحيان، أوتتهاون في مقارعته.
أتاحت لي قراءة هذه الرواية البحث عمّا يُدعى بحرب الطبقات أو الأعراق، وهي ثورة أشعل فتيلها السكان الأصليّون لشبه جزيرة اليوكاتان المكسيكية في وجه المستعمر الإسباني عام 1847م.
أوضح الكاتب أنّه عندما أدرك هذا المستعمر مدى تشرّب الشعب المكسيكي للروحانيات والماورائيات وانجراف عواطفهم وراء الطقوس الدينيّة وتمجيد الآلهة والمقدسات؛ كرّس سائر خططه في تحطيم صورة المقدّس في وجدان هذه الشعوب (الآزتيك والمايا) وتقديم نفسه على أنّه المخلّص القادم من وراء البحار والذي يحمل لهم الجنة في صورة حضارته المتقدمة ليمحوَ بها تراثهم وتقاليدهم ويؤصّل ثقافته في مظاهرهم الحياتية..
على الرغم من جو الرواية النّضالي، إلا أنّنا أمام عملٍ مكتوبٍ بنَفَسٍ شاعريّ تختلط فيه المادية الأوروبية الجلفة بالصفاء الروحاني المكسيكي الحالم. وكلّه ضمن سياق رحلة الصليب المتكلم الذي كلما حاربه الجيش ازدادت أعداد المؤمنين به واتسعت رقعة الولاء له.
صدرت الرواية عن دار سرد وممدوح عدوان، وتقع في 77 صفحة من القطع المتوسط بترجمة متمكّنة للدكتور معن السّهوي، وهي رغم قصرها إلا أنّها رواية “ثقيلة” تحتاج قارئاً حاذقاً صافي الذهن. كما أشيد بمقدمة المترجم الذي استهّل الرواية بموجزٍ عن حياة الروائي “لوكليزيو” وأدبه اللصيق بالأقليات والشعوب المستضعفة.